ثمر الروح القدس
المحبة
"الله محبة" (1يوحنا 8:4 و16).
"كما أَحِببتكم أنا تحبون أنتم أيضاً بعضكم بعضاً" (يوحنا 35:13).
هل يمكن أن الله العظيم القدوس يتنازل فيحب الإنسان الضعيف الخاطئ؟.. هذا فكر يعلو منطق البشر، ولكنه وصل دنيا البشر عندما تنازل الله وبيَّن محبته لنا "لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا" (رومية 8:5). فهل يقدر الإنسان الذي اختبر محبة الله له أن يحب الله، وأن يحب أخاه الإنسان؟
لقد أخذ الله زمام المبادرة وأعلن حبه للإنسان، في العناية يوم جهَّز لآدم وحواء جنة عدن، ووضع فيها كل ما يُسعد وجودهما في الأرض من قبل أن يخلقهما. ثم لما سقطا، أعلن محبته لهما بطريقة أعمق، فستر عريهما بلباس التقوى والبر، ومنحهما الغفران والفداء. وفي قصة محبة النبي هوشع لزوجته جومر، بالرغم من سقوطها، أعلن الله لأهل التوراة كم يحبهم بالرغم من خيانتهم وسقوطهم! (هوشع 1 و3). أما في الإنجيل فقد رأينا الحب في أكمل معانيه "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (يوحنا 16:3). وباسم هذه المحبة يدعونا الله لنحبه، ونحب بعضنا بعضاً. ونتعلم من محبة الله لنا كيف نحبه وكيف نحب البشر من حولنا.
سأل أحد علماء الشريعة المسيح: "أيَّة وصية هي أول الكل؟" فأجابه: "أول كل الوصايا هي.. الرب إلهنا ربٌّ واحدٌ. وتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى. وثانيةٌ مثلها: تحب قريبك كنفسك. ليس وصيةٌ أخرى أعظم من هاتين" (مرقس 29:12-31). وقال الرسول بولس: "بالمحبة اخدموا بعضكم بعضاً، لأن كل الناموس في كلمة واحدة يُكمل: تحب قريبك كنفسك" (غلاطية 14:5).
فالمحبة هي الثمرة الأولى من ثمر الروح في العنقود الذي ينمو على كل غصن من أغصان كرمة المسيح: محبة للرب، ومحبة للآخرين، كنتيجة طبيعية لمحبة الرب لنا، وملء الروح القدس لنا.
أولاً: ثمر الروح هو محبةٌ لله
كل من يملكه الروح القدس يثمر محبةً لله، تظهر في:
1 - الرغبة في الحديث مع الله:
الذي يملكه روح الله ويسيطر عليه يحب الله ويدعوه كثيراً ويخاطبه كثيراً، لأنه يريد أن تكون له به علاقة وثيقة. وأنت عندما تحب إنساناً تتَّصل به، وتكلّمه، وتقضي معه وقتاً طويلاً، وتعتبر كل وقت يمضي بغير اتصالٍ به وقتاً ضائعاً من عمرك. فكم يجب أن تتحدث مع الله لأنك تحبه! والمحبة لله من كل القلب تعني الاتصال الدائم بالله والحديث المتواصل معه. قال المرنم: "لكلماتي أصغِ يا رب. تأمَّل صراخي. استمِع لصوت دعائي يا ملكي وإلهي، لأني إليك أصلّي. يا ربُّ، بالغداة تسمع صوتي. بالغداة أوجِّه صلاتي نحوك وأنتظر" (مزمور 1:5-3).
ويسمي الكتاب المقدس هذا الحديث مع الله بأنه "صلاة". فليست الصلاة واجباً مفروضاً على المؤمن، بل هي الحديث الحبّي المنتظم الوفير معه، والذي يصفه نبيُّ الله داود بالقول: "أما أنا فصلاةٌ" (مزمور 4:109).
ونرى في المسيح خير نموذج في التعبير عن حبه للآب السماوي بالحديث معه، فقد كان يبدأ به يومه: "في الصبح باكراً جداً قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء، وكان يصلي هناك" (مرقس 35:1). بدأ يومه وحده بعيداً عن تلاميذه ليقضي وقتاً هادئاً في صُحبة أبيه السماوي. وكان يختم به يومه: "وبعدما ودَّعهم (تلاميذه) مضى إلى الجبل ليصلي. ولما صار المساء كانت السفينة في وسط البحر، وهو على البرّ وحده" (مرقس 46:6 و47). كما كان يصرف الليل كله في الصلاة (لوقا 12:6). ولما رآه التلاميذ يخاطب الآب كثيراً طلبوا منه أن يعلّمهم كيف يصلّون (لوقا 1:11). لقد أعطانا المسيح، ابن الإنسان، هذا النموذج في الصلاة ليعلّمنا شدَّة حاجتنا إليها، لأن المؤمن الذي يحب الرب كثيراً هو الذي يختلي بالرب كثيراً، وهو صاحب الحديث العميق المستمر معه.
ولكي تزيد الوقت الذي تقضيه مع الرب، أقترح عليك أن تصلي في كل وقت تقوم فيه بعملٍ لا يحتاج إلى تركيز. فعندما تقوم بعمل روتيني (كقيادة سيارة، أو انتظار وسيلة مواصلات، أو إن كانت سيدة تقوم بعملٍ في مطبخها أو ترتّب بيتها) أقترح عليك أن تستثمر هذا الوقت في الحديث مع الله والحوار مع الآب السماوي، فتتحوَّل هذه الأوقات العاطلة من التفكير إلى أوقات صلاة، وتصبح حياتك الروحية أكثر غنى، وتتعمق صلتك بالله، وتصير محبتك له من كل القلب والفكر والإرادة، فتقول مع آساف: "أما أنا فالاقتراب إلى الله حسنٌ لي. جعلتُ بالسيد الرب ملجإي" (مزمور 28:73). فبعد شكوكٍ كثيرة واستفهامات فكرية وشكاوى متعددة اكتشف آساف أن أحسن شيء له هو الاقتراب إلى الله، والحديث معه، والاعتماد عليه.
2 - الرغبة في دراسة كلمته:
عندما تصلنا رسالة من شخص عزيز نقرأها بلهفة، ونعاود قراءتها، ثم نعاود التأمل في كلماتها. وعندما نضعها جانباً تكون أفكارها ملء عقولنا، لأننا نحب كاتبها. ومَن أكثر قرباً إلينا وحباً لنا من الآب السماوي؟! إن حب شريك الحياة مثلاً بدأ يوم تعرُّفنا عليه، وسينتهي بنهاية حياة أحدنا على الأرض. أما حب الآب السماوي لنا فقد بدأ من قبل أن نعرفه، وسيستمر إلى ما لا نهاية. ومحبتنا له بدأت يوم توبتنا ورجوعنا إليه، وستستمر إلى ما لا نهاية. "الله محبة" أرسل إلينا كلمته الموحى بها منه، والتي يحفظها من أي تحريف أو تغيير لتكون سراجاً لأرجلنا ونوراً لسبيلنا (مزمور 105:119)، فنقول مع المرنم: "أتلذَّذ بوصاياك التي أحببتُ.. كم أحببتُ شريعتك! اليوم كله هي لهجي.. كلمتك ممحَّصة جداً وعَبْدُك أحبَّها" (مزمور 47:119 و97 و140). فلتكن هذه الآيات نوراً هادياً تدفعنا إلى زيادة محبتنا للرب ولكلمته، فنلهج بها، ونتأمل فيها، لأننا نحب صاحبها. وسنجدها كاملةً ونقية، فنقول مع نبي الله إرميا: "وُجد كلامُك فأكلتُه، فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي، لأني دُعيتُ باسمك يا رب إله الجنود" (إرميا 16:15). ونسمع مع النبي حزقيال أمر الرب: "أَطعِم بطنك واملأ جوفك من هذا الدَّرج الذي أنا معطيكه. فأكلتُه، فصار في فمي كالعسل حلاوةً" (حزقيال 3:3).
وكلما زادت محبتنا لله زادت قراءتنا لكلمته، وزاد تأملنا فيها، فلا نكتفي بأن نحفظها عن ظهر قلب، ولا أن نرددها بشفاهنا فقط، بل نحرص أن تكون غذاءً يومياً لأرواحنا، وواقعاً مُعاشاً كل يوم.
3 - الرغبة في التمثُّل به:
قال الرسول بولس: "كونوا متمثِّلين بالله كأولادٍ أحبّاء، واسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح أيضاً وأسلم نفسه لأجلنا" (أفسس 1:5). وقال أيضاً: "كونوا متمثِّلين بالله، كما أنا أيضاً بالمسيح" (1كورنثوس 1:11). وقال لأهل غلاطية إن هدف كل جهده في الكرازة بالإنجيل لهم هو "أن يتصوَّر المسيح فيكم" (غلاطية 19:4) وهو يقصد أن كل من يراهم يرى المسيح فيهم.
لا شك أنك تمثلت بوالدك، كما أن طفلك يتمثل بك. وحسناً يقولون إن الطفل سِرُّ أبيه. وكلما أحب الطفل والده زاد تمثُّلاً به. وكلما تأمَّلت تعاليم المسيح وفكرت في حياته على الأرض صرت مثله، لأنك ستحب أن تقتدي به.
ثانياً: ثمر الروح هو محبةٌ للناس
الذين يثمرون ثمرة الروح "محبة" يحبون خليقة الله من البشر، كل البشر. ويشعرون بهم ومعهم في كل ظروف حياتهم، مهما كان جنسهم أو دينهم أو لون جلدهم! إنهم يحبون كما يحب الله، الذي يحب كل البشر لأنهم خليقته "فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين" (متى 45:5).
1 - الروح القدس يثمر فينا محبةً للإخوة:
لكي نبرهن أننا نحب الله الذي لا نراه يجب أن نحب البشر الذين نراهم. وقد كانت المحبة الأخوية هي الصفة المميِّزة للمؤمنين بالمسيح عبر العصور، فكان الوثنيون يقولون: "انظر كيف يحب المسيحيون بعضهم". وقد أعلن المسيح أن المحبة هي برهان التلمذة الحقيقية له، فقال: "بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي: إن كان لكم حبٌّ بعضاً لبعض" (يوحنا 35:13). وقال الرسول يوحنا: "نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الإخوة. من لا يحب أخاه يبقَ في الموت. كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس، وأنتم تعلمون أن كل قاتل نفس ليس له حياة أبدية ثابتة فيه" (1يوحنا 14:3 و15).
ونحن نعلم أن الحياة الجديدة في المسيح هي نتيجة عمل الروح القدس في القلب. وكل من انتقل بالتوبة من الهلاك الأبدي إلى الحياة الأبدية يحب إخوته المؤمنين الذين يشتركون معه في نفس نوعية الحياة، وفي محبتهم لله، لأن الروح القدس فيهم ينشئ نفس الأشواق، ويدفعهم إلى نفس الأهداف، ويفكر نفس الأفكار.
2 - الروح القدس يثمر فينا محبةً للفقراء:
ما أكثر من يحتاجون إلى القوت الضروري، فقد قال المسيح: "الفقراء معكم في كل حين" (متى 11:26). وقال أيضاً: "مغبوطٌ هو العطاء أكثر من الأخذ" (أعمال 35:20). وقال الرسول بولس: "المعطي المسرور يحبه الله" (2كورنثوس 7:9).
ولا يكفي أن ننصح المحتاجين بتناول الطعام أو الاكتساء، بل يجب أن نقدم لهم مما عندنا، طاعةً للوصية الرسولية: "إن كان أخٌ أو أخت عريانَيْن ومعتازَين للقوت الضروري، فقال لهما أحدكم: امضيا بسلامٍ، استدفئا واشبعا، ولكن لم تعطوهما حاجات الجسد، فما المنفعة؟" (يعقوب 15:2 و16).
وقد قدَّم المسيح لنا مثالاً عظيماً للعناية بالجائعين: فقبل أن يمتلئ التلاميذ من الروح القدس اجتمع خمسة آلاف رجل مع عدد كبير من النساء والأطفال حول المسيح يسمعون وعظه. وفي نهاية اليوم قال التلاميذ للمسيح إن هؤلاء جميعاً يجب أن يعودوا إلى بيوتهم لأن الوقت قد تأخر وهم جائعون، وليس لدى التلاميذ ما يعطونه لهم ليأكلوا. ولكن المسيح قال: "أعطوهم أنتم ليأكلوا". فقال أندراوس: "هنا غلام معه خمسة أرغفة وسمكتان. ولكن ما هذا لمثل هؤلاء؟". وفي حب حقيقي أخذ المسيح الأرغفة الخمسة والسمكتين وبارك وأطعم الجياع، وعلّم تلاميذه وعلّمنا درساً أن نعمل ما نستطيع، وأن نضع بين يديه ما معنا، ليعمل بنا ومعنا، فنقدِّم للمحتاج احتياجه (يوحنا 1:6-15).
قال الرسول يوحنا: "من كان له معيشة العالم ونظر أخاه محتاجاً وأغلق أحشاءه عنه، فكيف تثبت محبة الله فيه؟ يا أولادي، لا نحبَّ بالكلام واللسان، بل بالعمل والحق.. لنحبَّ بعضنا بعضاً لأن المحبة هي من الله، وكل من يحب فقد وُلد من الله ويعرف الله، ومن لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة.. إن أحب بعضنا بعضاً فالله يثبت فينا، ومحبته قد تكمَّلت فينا. بهذا نعرف أننا نثبت فيه وهو فينا: أنه قد أعطانا من روحه" (1يوحنا 17:3 و18 و7:4 و8 و12 و13). فلكي نبرهن أننا نحب الله الذي لا نراه يجب أن نحب البشر الذين نراهم، ونتعاطف معهم في ظروفهم، ونمد أيدينا إليهم بما يحتاجونه.
وخير ما نفعله لنساعد المحتاجين هو أن نعلّمهم كيف يساعدون نفوسهم، فيكسبون رزقهم بعرق جبينهم. من السهل أن تعطي المحتاج جنيهاً، ولكن من الصعب أن تعطيه من وقتك وتفكيرك وجهدك ما يعاونه على تطوير نفسه. وكل من يحب المحتاج كما يحبُّه الله يساعده بتنمية إمكانياته وتعليمه وتدريبه.
فماذا ستفعل لمساعدة الفقراء؟ وبماذا يكلّفك الروح القدس لمساعدتهم؟
3 - الروح القدس يثمر فينا محبةً للضعفاء:
يعطينا المسيح المثال الذي يجب أن نتمثل به، فهو السيد المحب الذي يشعر بضعف الضعفاء واحتياجاتهم ويهتم بهم، لأنه يحس بمشاعرهم. كان يتأمَّل المرضى المقيمين حول بركة بيت حسدا، وهم يعتقدون أن ملاكاً كان ينزل من السماء ويحرِّك ماء البِركة، والمريض الذي يسرع إلى الماء بعد ذلك يُشفى. ورأى المسيح مريضاً كان ينتظر مَن يُلقيه في البركة متى تحرَّك الماء لينال الشفاء، ولكنه لم يجد أحداً. وانتظر هذا المريض ثمانٍ وثلاثين سنة، فلم يشفق عليه أحد، حتى اعتقد أن عدم الإشفاق هو القاعدة! ولكن المسيح ذهب إليه، وتحنن عليه، وفي حب كامل منحه شفاء الجسد من المرض، وشفاء الروح من الخطية (يوحنا 1:5-9).
ودخل المسيح مجمع العبادة يوم سبتٍ فرأى امرأة منحنية الظهر، لم تقدر أن تنتصب البتَّة مدة ثماني عشرة سنة. ولم تطلب منه الشفاء، ولكنه لما رآها أشفق عليها ودعاها، ووضع عليها يديه فاستقامت في الحال ومجَّدت الله. وكان اليهود يقدِّسون يوم السبت ولا يعملون فيه شيئاً. وكان المسيح يعرف أن إجراء معجزة الشفاء في يوم السبت سيعرِّضه لكثيرٍ من النقد، ومع ذلك لم يبالِ بالنقد، وأبرأها. فانتقد رئيس المجمع كل الذين جاءوا ليطلبوا من المسيح الشفاء في يوم السبت، فقال المسيح له: "يا مرائي! ألا يحلّ كل واحد منكم في السبت ثوره أو حماره من المذود ويمضي به ويسقيه؟ وهذه، وهي ابنة إبرهيم، قد ربطها الشيطان ثماني عشرة سنة، أما كان ينبغي أن تُحلَّ من هذا الرباط في يوم السبت؟" (لوقا 10:13-17). فما أشد حاجتنا إلى تعلُّم مشاعر المحبة التي في قلب المسيح من نحو كل البشر، وبخاصة المحتاجين منهم.
وقد تعلّم محبّو المسيح الذين ساد الروح القدس على تصرفاتهم كيف يعاونون الضعفاء، فأسس الراهب المسيحي سالسيوس أول معهد للعميان، وأسس التاجر المسيحي أيولونيس أول مستودع مجاني لتوزيع الأدوية، وأسست الأميرة الرومانية فابيولا، بعد اعتناقها المسيحية، أول مستشفى.
وأنت ماذا فعلتَ، وماذا ستفعل لتعين الضعفاء؟
4 - الروح القدس يثمر محبة التكافل بين البشر:
حضَّ الرسول بولس المؤمنين على أن يتكافلوا، فيعطي من يملك من لا يملك، حتى إذا تغيَّرت ظروفه يجد من يعاونه.
وقد يتضايق من يملك عندما يطالبونه أن يعطي، فقال الرسول بولس: "لأنه ليس لكي يكون لآخرين راحة ولكم ضيق، بل بحسب المساواة. لكي تكون في هذا الوقت فضالتكم لأعوازهم، كي تصير فضالتهم لأعوازكم، حتى تحصل المساواة" (2كورنثوس 13:8 و14).
والمحبة تشارك غيرها دوماً في ما عندها، عملاً بالقانون الرسولي: "فرحاً مع الفرحين وبكاءً مع الباكين، مهتمِّين بعضكم لبعض اهتماماً واحداً" (رومية 15:12 و16). وقال القديس يوحنا ذهبي الفم: "البكاء مع الباكي أسهل من الفرح مع الفرحان، لأن الحسد قد يمنعنا من الفرح مع الفرحان". والمحبة لا تحسد (1كورنثوس 4:13)، لأن الحسد هو الشعور بالضيق من نجاح الآخرين في صحتهم أو مركزهم أو غناهم أو شهرتهم أو تقدمهم. ولكننا يجب أن نشارك الجميع أفراحهم وأحزانهم على السواء، ليشاركونا هم أيضاً وقت حاجتنا.
ما أعظم حاجة عالمنا إلى التكافل، عملاً بوصية إمام الحكماء سليمان: "ارمِ خبزك على وجه المياه، فإنك تجده بعد أيام كثيرة" (جامعة 1:11). "فإن الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً.. فلا نفشل في عمل الخير لأننا سنحصد في وقته إن كنا لا نكِلّ. فإذاً حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع، ولا سيما لأهل الإيمان" (غلاطية 7:6-10).
5 - الروح القدس يثمر فينا محبةً للأعداء:
قال أفلاطون: "الرجل الصالح هو الذي يحتمل الأذى، لكنه لا يرتكبه". ومن السهل على الإنسان أن يترفَّق بالصالحين وأن يحب الذين يحبونه، ويُحسن إلى الذين يُحسنون إليه. لكن المحبة الحقيقية هي التي تتَّجه إلى من يقاوموننا ويسيئون إلينا. ولن نقدر أن نحب أعداءنا إلا بقوة الروح القدس عندما يملأنا ويسود على سلوكياتنا، فنقدر أن نطيع الوصية: "أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسِنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم" (متى 44:5).
يساعدنا الروح القدس أن نتغاضى عن الاختلافات وأن نتراضى. صحيحٌ أننا لا يمكن أن نلتقي مع الجميع في كل شيء، ولكن الروح القدس يعيننا لنهتم بكل ما نلتقي فيه معاً. وهو يخلّصنا من الكبرياء التي تشعر بالجرح بسرعة وسهولة، وتسرع للانتقام ممّا تسمّيه الكرامة والشرف، لأن الروح القدس يعطينا الصبر وطول الأناة، ويعلّمنا عمل الصلاح.
يحدث العراك بخصامٍ بين شخصين، بينما عمل الصلح والسلام يحتاج لشخصٍ واحد فقط! وعندما يسيطر الروح القدس علينا يعطينا نقاوة القلب ومحبة السلام، فنسالم جميع الناس بقدر ما يمكننا، بدون أن نرتكب إثماً، وبدون أن ننكر حقاً، وبدون أن نخالف ضمائرنا (رومية 18:12). وهو يساعدنا أن نتبع السلام مع الجميع، والقداسة التي بدونها لن يرى أحدٌ الرب (عبرانيين 14:12).
6 - الروح القدس يثمر فينا محبةً لكل من يحتاجون إلينا:
سأل أحد علماء الشريعة المسيح: "ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟" فأجابه: "تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك ومن كل فكرك، وقريبك مثل نفسك". فسأل: "ومن هو قريبي؟". فروى له المسيح مثَل "السامري الصالح" الذي وجد يهودياً جريحاً في الطريق، لا تربطه به علاقة سابقة، فضمد جراحاته، وحمله على دابته إلى أقرب مكان يقيم فيه حتى يتم شفاؤه، وتحمَّل نفقات علاجه. وقال المسيح إن السامري هو قريب اليهودي الجريح، فكل من يحتاج إلى معونتنا هو قريبنا (لوقا 25:10-37). وفي مثل السامري الصالح نجد أربع شخصيات:
(أ) الجريح: وهو يهودي كان مسافراً من أورشليم إلى أريحا، فوقع بين لصوص، فعرّوه وجرحوه وسلبوا منه كل ما معه، وتركوه بين حيّ وميت (لوقا 30:10). وكان اليهودي يكره السامري ولا يتعامل معه أبداً. وإذا لمس سامريٌّ يهودياً، يشعر اليهودي أنه تنجَّس طقسياً، فيغتسل ليتطهر! ولو كان اليهودي الجريح سليم الجسد لما سمح للسامري أن يلمسه!
(ب) الكاهن: مرَّ بالجريح وهو في طريقه لأداء خدمته الدينية في الهيكل، فرأى الجريح الذي ينتمي إليه في الجنس والدين، ولكنه جاز مقابله دون أن يساعده (لوقا 31:10). وهناك أسباب منطقية جعلت الكاهن يتصرف بهذه الطريقة:
* كانت هناك خطورة على حياة الكاهن، لأن اللصوص كانوا أحياناً يسكبون على واحدٍ منهم دم خروف، وينام على الطريق يمثِّل دور جريح! فمتى أشفق عليه أحدٌ وحاول أن يساعده يمسك به اللص حتى يجيء زملاؤه من وراء الصخور ليهاجموا هذا المسافر ويسرقوا ما معه.
* كان هناك احتمال أن يموت الجريح بين يدي الكاهن، فيتنجَّس طقسياً، ويتعطل عن أداء واجباته الدينية. وفكّر الكاهن: ما هو العمل الذي يجب أن يعطيه الأولوية الأولى: أن يساعد الجريح فيتدنس ولا يستطيع أن يقوم بواجبه الديني، أو أن لا يساعد الجريح فيقوم بواجباته الدينية؟ وقرر أن يضع واجباته الدينية أولاً!
(ج) اللاوي: وهو مساعد الكاهن في أداء الواجبات الدينية. هذا نظر إلى الجريح وجاز مقابله. لقد اهتمَّ اللاوي بالجريح أكثر من اهتمام الكاهن به، لأنه نظر إليه. وهذا ما لم يفعله الكاهن. غير أن اللاوي تردد كثيراً في تقديم المساعدة. ولعله قال في نفسه: "الكاهن أستاذي، وهو القدوة، وهو يعرف أكثر مني. فإن كان قد مضى دون أن يعاون الجريح، فلا بد أن له في ذلك حكمة". ولعل اللاوي تذرَّع بهذه الحجَّة ليعفي نفسه من القيام بواجبه الإنساني.
(د) السامري الصالح: الأجنبي عن الجريح، المختلف معه في العقيدة. هو الذي ضمد جراح اليهودي، وأركبه على دابته وأخذه إلى فندق وأعطى صاحب الفندق دينارين، وقال له: إن احتاج الجريح إلى شيء قدِّمه له، وعند رجوعي أوفيك.
قدَّم لنا المسيح في هذا المثل جريحاً. وهناك من هم أكثر بؤساً من جرحى الأجساد. إنهم جرحى الخطية. صحيحٌ إن دماءهم لا تسيل، لكن نفوسهم الجريحة بالذنوب معرَّضة للهلاك الأبدي. وعلى المؤمنين أن يقدّموا لهم رسالة المسيح، وأن يشرحوا لهم اختباراتهم الروحية، لعلهم يتوبون فيخلصون. إن الله يكلف من يحبونه أن يحبوا الآخرين ويسعوا لتخليصهم من خطاياهم، حتى لو أساءوا إليهم، فالمحبة تتأنَّى وترفُق، وتتحمَّل إساءات الآخرين، وتقدر أن تطيع الوصية الرسولية: "باركوا على الذين يضطهدونكم. باركوا ولا تلعنوا.. فإن جاع عدوُّك فأَطعِمه، وإن عطش فاسقِهِ، لأنك إن فعلتَ هذا تجمع جمر نار على رأسه. لا يغلبنَّك الشر، بل اغلب الشر بالخير" (رومية 14:12 و20 و21).
7 - الروح القدس يثمر فينا محبةً للعائلة:
عندما يسيطر الروح القدس على حياتنا يجعلنا نحب أفراد العائلة، فيحب الزوج زوجته، وتحب الزوجة زوجها، ويسود الحب جوَّ البيت. وقد شرح الرسول بولس لنا هذه المحبة الزوجية بقوله: "أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحبَّ المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها.. يجب على الرجال أن يحبوا نساءهم كأجسادهم. من يحب امرأته يحب نفسه، فإنه لم يبغض أحدٌ جسده قط، بل يقوته ويربيه كما الرب أيضاً للكنيسة" (أفسس 25:5 و28 و29). ونصح الرسول بطرس الرجال بقوله: "أيها الرجال، كونوا ساكنين بحسب الفطنة مع الإناء النسائي كالأضعف، معطين إياهنَّ كرامةً كالوارثات أيضاً معكم نعمة الحياة، لكي لا تُعاق صلواتكم" (1بطرس 7:3).
ما أجمل وأسعد البيت الذي يسود الروح القدس سلوك أفراده، فيتم فيهم وصف المرنم: "هوذا ما أحسن وما أجمل أن يسكن الإخوة معاً.. لأنه هناك أمر الرب بالبركة: حياةٍ إلى الأبد" (مزمور 1:133 و3).
* * *
يجب أن نطلب الامتلاء من الروح القدس، وأن نعطيه السيطرة على حياتنا، لنستطيع أن نحب الله أبانا بكل قلوبنا، فينمو فينا ثمر الروح الذي هو محبة، فنحب الآخرين، سواء كانوا يحبوننا أو لا يحبوننا. وعندما نبدأ بحب الآخرين، يعرفون المسيح الذي علَّمنا الحبَّ النقي الصادق، الذي يعطي ولا ينتظر أخذاً، ويجدون فينا تطبيقاً عملياً للقول الرسولي: "أما غاية الوصية فهي المحبة من قلبٍ طاهر، وضميرٍ صالح، وإيمانٍ بلا رياء" (1تيموثاوس 5:1).
صلاة
يا رب، أنت أحببتني وأنا ضعيف ساقط، وأدمتَ لي رحمتك التي لا أستحقُّها. ازرع في قلبي المحبة لك، ولعائلتي، وأصدقائي، ومجتمعي، وأعدائي، وعمِّق هذه المحبة المقدسة فيَّ. اقبل دعائي أن يسيطر الروح القدس على سلوكي اليومي، لأثمر محبة تدفئ قلوب كل المحيطين بي، وكل المتعاملين معي. آمين.