كيف نمتلئ بالروح القدس؟
الملء بالروح القدس هو أن يمتلك الروح القدس حياتنا، ويسود على جسدنا وعقلنا وعواطفنا ووقتنا ومالنا، فلا يكون ساكناً فينا فقط، بل يكون مالكاً بالكامل على كل حياة المؤمن، فيكون المسيح متقدِّماً في كل شيء في حياة الشخص الممتلئ بالروح القدس (كولوسي 18:1).
عندما نقبل المسيح مخلِّصاً لنا تتجدَّد حياتنا، ويسكن الروح القدس فينا ويجعلنا هياكل له. وفي البدء تكون معرفتنا بالرب محدودة، لأننا نكون كأطفالٍ في الإيمان يشتهون اللبن العقلي العديم الغش لكي ينموا به (1بطرس 2:2). فالمؤمن المتجدد حديثاً طفلٌ يحتاج إلى الغذاء لينمو، وغذاؤه كلمة الله المقدسة.
وخلاص نفوسنا وتجديدنا هو بدء الصداقة مع المسيح. ولكن الصداقة لا تكمل إلا بطول المعاشرة بين الصَّديقَيْن، ومعرفة كل منهما للآخر معرفة عميقة. فلا يظن حديث الإيمان أنه أدرك القداسة، لأنه في بداية الطريق، ويحتاج إلى الكثير من المعرفة الروحية التي تزداد كل يوم حتى يعرف أعماق الله، ويصير شريكاً للطبيعة الإلهية (2بطرس 4:1). والتجديد هو الوقوف على شاطئ الإيمان. ثم يخطو المتجدِّد إلى داخل نهر النعمة، فيصل الماء إلى الكعبين. ثم يخطو أعمق فيصل الماء إلى الركبتين، ثم يدخل إلى الأعماق، فيغمر الماء الحقوين.. وسرعان ما تجذبه أمواج النعمة إلى عمق نهرٍ لا يستطيع عبوره (حزقيال 5:47). وفي الأعماق تحمل الأمواج المؤمن فيؤدي خدمته طائعاً، حيث تتفق الإرادتان: إرادة الله، وإرادته هو. هذا هو بحر الامتلاء بالروح القدس، أو نهر الفيضان الروحي.
والامتلاء بالروح امتيازٌ يهبه الله لكل مؤمن، ولو أن كثيرين لا يتمتعون به، فلا يختبرون الحياة الفائضة المثمرة التي وعد الله بها كل الذين يؤمنون به. فما الذي يعطل حصولهم على هذا الامتياز؟ وكيف يحصلون عليه؟
أولاً : معطلات الملء
كانت قرية صغيرة تستقي الماء من طلمبة (مضخَّة) صغيرة كثيراً ما كانت تتعطل عن العمل فتعرِّض القرية للعطش، ففكر الأهالي في جلب الماء من بحيرة بأعلى الجبل المجاور للقرية، فوضعوا ماسورة توصّل لهم الماء. وذات يوم وجد أحدهم أن قوة الماء المندفع من الماسورة يكفي لتوليد الكهرباء، فاستخدم الناس هذه القوة في تشغيل مصانع مختلفة، فاتَّسعت القرية وصارت مدينة عظيمة. وذات يوم توقَّف تدفُّق الماء، فتعطلت المصانع، وعطش الناس! ولما بحثوا عن السر، وجدوا أن بعض الخِرق القديمة سدَّت الماسورة فعطلت اندفاع الماء!
ترى ما هو الشيء الذي يمنع امتلاءك من الروح القدس؟ وأي موانع عطَّلت تدفُّق الماء الحي لقلبك؟
أذكر بعض ما يعطل امتلاءنا بالروح القدس ويمنع انسياب البركة لحياتنا:
1 - عدم التوبة:
التوبة هي الشرط الأساسي لقبول الروح القدس، كما قال الرسول بطرس: "توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس" (أعمال 38:2). وعدم ترك الخطية التي نرتكبها ونحن نعرفها هو أحد أسباب عدم الامتلاء بالروح القدس.
ألا يبدو عجيباً أن قوماً يريدون أن يمتلئوا بروح الحياة ويتمسَّكون بالموت في ذات الوقت؟ وأليس غريباً أن من يريد أن يمتلئ بروح القداسة يتمسَّك بنجاسة؟! إن المرنم يقول: "إن راعيتُ إثماً في قلبي لا يستمع لي الرب" (مزمور 18:66)!
قال أحد رجال الله الأتقياء: "افرِض أني أتيت إلى بيتك، ودعوتني للدخول، لكنك وضعتَ ثِقلاً وراء الباب! فكيف أدخل؟ قل لي: "تفضَّل" كما تشاء، وادْعُني بكل قوتك، واستخدم كل تعبير مؤثر تعرفه! لكني لن أستطيع الدخول لأن الثقل الذي وراء الباب يصرخ فيَّ بطريقة عملية ويقول: لا تدخل! هكذا الأمر مع الروح القدس. إنه لن يدخل القلب ليمتلكه ما دمتَ تضع خطية وراء باب القلب، وأنت عارف بها.
عندما يضع الرب إصبعه على أمر في حياتك لا يرضيه، اتركه حالاً، واعلم أن يد الإيمان يجب أن تكون فارغة إن هي أرادت أن تمتلئ. فاهجُر كل خطية محبوبة لديك، فتمتلئ من الروح القدس. ألم تسمع أن قربانك لا يكون مقبولاً إن كانت هناك خطية خصام في حياتك؟ (متى 23:5). فإذا وضعت ذبيحة حياتك على مذبح التكريس لله وتذكرت خطية عندك، فأسرع بإنزال ذبيحتك من على المذبح، وصفِّ حسابك مع أخيك أولاً، ثم ارجع لتقدم لله تقدمتك!
تقابل خادمٌ لله مع قائد ديني كبير، وشكا له ضعفه الروحي وعدم امتلائه بالروح القدس، رغم صلاته الكثيرة طالباً الملء. ووجَّه القائد للخادم أسئلة فاحصة ساعدته أن يكتشف أن في حياته خطيةً يحبها، فقرر أن يتركها حالاً. وحالما عزم أمام الله أن يتركها فاض الروح القدس في قلبه وملأه.. وكان هناك مؤمن يطلب ملء الروح القدس، لكنه لم ينله حتى ردَّ مبلغاً من المال كان قد اقترضه ولم يُعِده، فامتلأ بالروح.
في حضرة الله اركع وسكّن قلبك قدامه، واطلب منه أن يكشف لك الخطية التي تعطل امتلاءك من الروح. قل له: "اختبِرني يا الله واعرِف قلبي، امتحنِّي واعرف أفكاري، وانظر إن كان فيَّ طريق باطل، واهدِني طريقاً أبدياً" (مزمور 23:139 و24).
إن صلَّيت هذه الصلاة بإخلاص ونيَّة صادقة سيعلن لك الله كل طريق باطلٍ في حياتك، لأن الخطية تظهر في نور قداسته.. سيقول لك: "هذه هي الخطية التي حرمتك من البركة.. اتركها". وسيكشف لك كل خطية في حياتك، مهما كنتَ تظن أنها ضئيلة. فأرفع لله الصلاة التي صلاّها أليهو: "ما لم أُبصِره فأَرِنيه أنت. إن كنتُ قد فعلتُ إثماً فلا أعود أفعله" (أيوب 33:34). اطلب من الله أن يريك ما عجزتَ عن رؤيته فلا تعود تفعله.
2 - عدم قداسة الغرض:
لن يملأ الروح القدس شخصاً يطلبه بقصد رفع مركزه بين الناس، أو ليكون أفضل الوعاظ، أو ليجذب الجماهير إليه، أو ليحتل مركزاً متميِّزاً بين المؤمنين.
فلماذا تريد أن تمتلئ؟ هل لمصلحة شخصية، أم لمجده؟ قال الرسول يعقوب: "تطلبون ولستم تأخذون، لأنكم تطلبون ردياً لكي تنفقوا في لذاتكم" (يعقوب 3:4). فالروح القدس لن يملأ إلا من يريد أن يمجِّد الله.
كان "دهن المسحة" الذي يرمز للروح القدس مخصَّصاً لمَسْح الهيكل وأوانيه، لتكون "قدس أقداس"، كما كان مخصصاً لمَسْح هارون وبنيه لتقديسهم لخدمة الله. ولم يكن دهن المسحة يُسكب على جسد أي إنسان (خروج 22:30-33). وهذا يعني أن الروح القدس لا يملأ إنساناً لغير غرض مقدس! وقصة سيمون الساحر ترينا أن عدم قداسة الغرض لا تعطل الملء فقط، بل تؤذي أيضاً الطالب الأناني (أعمال 9:8-25).
3 - عدم تكريس كل شيء:
احتفاظنا بشيء ما في حياتنا غير مكرَّس للمسيح يسبِّب عدم ملء الروح لنا. فكل شيء نحتفظ به لأنفسنا غير مسلَّم للمسيح هو سبب كل بلاء يصيبنا، وعدم تكريسنا الكامل للمسيح هو سبب كل هزيمة تلحق بنا. فلنسلِّم له كل شيء، ولا نحتفظ بأي شيء لأنفسنا.
أراد رجل تقي أن يسلّم نفسه بالتمام للرب، واستغرق في الصلاة، فرأى في ما يرى النائم أنه يمسك بسلسلة مفاتيح في يده، فيها مفاتيح كل شيء مهم لديه، والمسيح واقف أمامه يريد أن يتسلَّمها. فنزع مفتاحاً واحداً صغيراً احتفظ به لنفسه، وأعطي باقي المفاتيح للمسيح. ولكنه اندهش لأن المسيح رفض أن يستلم ما قدَّمه له. ولم يقبل حتى أعاد المفتاح الصغير مع كل المفاتيح الكبيرة الأخرى وأعطى كل المفاتيح للمسيح، ففاض في قلبه فرح الامتلاء بالروح القدس.
"فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تقدِّموا أجسادكم ذبيحة حيَّة مقدَّسة، مَرْضيَّة عند الله، عبادتكم العقلية" (رومية 1:12). ولن يقبل المسيح ذبيحة تكريسك، ولن تحل عليها نار الروح القدس المنقِّية إلا إذا كانت الذبيحة كاملة على المذبح، بلا نقص، ولو كان ذلك النقص أتفه شيء! فلتسلِّم مفاتيح حياتك للمسيح: مفتاح الوقت، والمواهب، والفكر، وكل شيء، وعندها تمتلئ بالروح القدس.
4 - الجهل بكيفية الإيمان:
اجتمع تلاميذ المسيح في أورشليم ينتظرون تحقيق وعد المسيح لهم في حلول الروح القدس عليهم، وهم لا يعلمون متى وكيف سيتحقق الوعد، ولو أنهم كانوا واثقين من تحقيقه. ولولا ذلك الإيمان ما بقوا ينتظرون في أورشليم.
ويخلط كثيرون بين الإيمان والشعور، فينتظرون إحساسات وعلامات ملموسة تطمئنهم أن روح الله ملأهم. وقد عطَّل عدم فهم الإيمان كثيرين عن بلوغ الهدف السامي الذي هو ملء الروح لهم. فنحن لا نحيا بالمشاعر، بل في تصديق وعود الله الواضحة. ولا أدري كيف نضعف في تصديق مواعيد الله! لأنه ليس بكيلٍ يعطي الله الروح (يوحنا 34:3)، وقد وعد الله أن يعطي الروح للذين يسألونه في طاعة (لوقا 13:11 وأعمال 32:5). فصدِّق وعد الله (إن كنت قد سلَّمته كل شيء) وثِق أنك امتلأت، حتى لو لم تكن لديك مشاعر جسدية أو نفسية. ولعل السر في عدم امتلائك هو اتكالك على الشعور والعواطف، بينما يجب أن تسلك بالإيمان لا بالعيان (2كورنثوس 7:5).
كانت سيدة تشكو لقسيس كنيستها عدم استجابة صلواتها في الامتلاء بالروح القدس، فوعد أن يزورها ليناقش المشكلة معها. ولما جهَّزت الشاي بادرها بطلب فنجانٍ منه، فقدَّمته له. ولكنه لم يمدّ يده ليأخذه، بل عاد يطلب مرة أخرى، وكرر الطلب حتى تضايقت السيدة. فقد كانت تقدم له ما طلب في كل مرة، وهو لا يتناوله! وجلست حائرة لا تعرف السر، فما اعتاد القسيس أن يتصرف هكذا! لكنه أوضح لها إنها تتصرف مع الله تصرُّفاً مشابهاً. لقد طلبت من الرب، وقدَّم لها الرب ما طلبته، لكنها لم تمد يد الإيمان لتأخذه، بل عادت تكرر الطلب!
يقدِّم الرب ملء الروح القدس لكل مؤمن يطلبه، لأنه يريد أن يكون أولاده أقوياء منتصرين. فلا تكن غير مؤمن بل مؤمناً، ومُدَّ يدك المؤمنة لتأخذ عطية الروح القدس، إن كنت قد عزمت على طاعته بكل قلبك.
طلبت فتاة من جدِّها أن يشتري لها حلوى معيَّنة تحبها، ووعد الجد أن يحضر لها ما أرادت. وفي الصباح ركب الجد سيارته وخرج لقضاء بعض شئونه. وحين وضع يده في جيبه وجد ورقة صغيرة مكتوباً فيها بخط صبياني: "أشكرك يا جدي لأنك أحضرت الحلوى!". لقد كان إيمان هذه الفتاة في وعد جدها كبيراً. فليكن إيمانك بوعود الله لك مثل إيمان هذه الفتاة.
5 - تقييد طلب الامتلاء بالروح بطلبات أخرى:
يضع البعض شروطاً مختلفة للامتلاء بالروح القدس. فيتصوَّر البعض أنهم عندما يمتلئون بالروح القدس سيسيرون على الماء كما فعل بطرس! ويذهب الخيال بالبعض إلى أنهم عندما يمتلئون سيحلّقون في الفضاء مثل أخنوخ وإيليا. وهناك من يشترطون على الله أن يعطيهم موهبة التكلُّم بألسنة، وإلا حسبوا أنفسهم غير ممتلئين! ولكي أكون منصفاً للذين يؤمنون بالتكلم بألسنة، وللذين لا يؤمنون بها أقول: هل كان يجب أن جميع الذين امتلأوا بالروح أن يتكلموا بألسنة؟ لا. البعض تكلموا، والبعض لم يتكلموا! إن المسيح سيدنا لم يتكلم بألسنة، رغم أنه كان يتكلم بعظائم الله! وعندما صلى الرسل تزعزع المكان الذي كانوا مجتمعين فيه، وامتلأ الجميع من الروح القدس، وكانوا يتكلمون بكلام الله بمجاهرة، ولا يذكر أنهم تكلموا بألسنة (أعمال 31:4). وعندما وضع حنانيا يديه على الرسول بولس ليبصر ويمتلئ بالروح القدس أبصر واعتمد وأكل، ولا يُذكر أنه تكلم بألسنة (أعمال 17:9)
هناك مواهب وخِدَم وأعمال متنوِّعة فوق طبيعية يهبها الروح القدس للمؤمنين. ويعطي الروح القدس لكل مؤمن ما يريد الروح أن يعطيه له، فلا يوجد مؤمن يمتلك كل المواهب، كما لا يوجد مؤمن بلا مواهب. ومن هذه المواهب ما هو خاص بالخدمات الاجتماعية والتدبيرية (رومية 8:12 و1كورنثوس 28:12) ومنها مواهب تعليمية وتنظيمية (أفسس 11:4) ومنها مواهب روحية. وقد أعطى الله للجميع مواهب طبيعية. ويجب أن نستخدم كل هذه بغير كبرياء ولا أنانية. فعندك موهبة يحتاج إليها غيرك، لأنها ليست عنده، وأنت تحتاج إلى خدمة موهبة عند أخيك وليست عندك. وهكذا نخدم بالمواهب بعضنا بعضاً، ونحن نحتاج بعضنا لبعض.
لا تعطل انسكاب الروح فيك بسبب الشروط التي تشترطها على الرب، وبسبب المواهب المحدَّدة التي تفرضها عليه كعلامة على امتلائك من الروح القدس، وكأنك أنت السيد وهو المنفِّذ، فلا تجني سوى الحرمان!
6 - عدم المحبة:
حياة المحبة والطاعة شرط نوال الملء من الروح القدس. قال المسيح: "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي" (يوحنا 15:14). وقال جون وسلي زعيم حركة المناداة بالقداسة في العالم: "القداسة الكاملة هي المحبة الكاملة" لله، وللمؤمنين، وللخطاة. وعدم محبتك لأي إنسان تحرمك من ملء الروح! لاحظ أنها المحبة الكاملة حتى للذين ينتقدونك، ويمتهنون كرامتك، ويسيئون إلى سمعتك! فهل عندك هذه المحبة؟ أو: هل أنت مستعد أن تكون لك هذه المحبة؟
لو لم تغفر للناس خطاياهم، لا يغفر لك الله. هذا حق علَّمه المسيح لنا بعد أن علَّمنا الصلاة الربانية (متى 14:6 و15). والمحبة هي أول ثمر الروح القدس. إن احتقارك للذين يستهزئون بك يدل على ضعف إيمانك. وكراهيتك لهم تدل على بُعدك عن روح المسيح الذي صلى لأجل صالبيه: "يا أبتاه، اغفر لهم" (لوقا 34:23)!
ويحسبك الرب مؤمناً وأنك قد انتقلت من الموت إلى الحياة، لا لأنك لا تعمل الخطية، فليس أحد معصوماً، ولكن لأنك تحب الإخوة (1يوحنا 14:3)! المحبة هي الإنجيل. هي تكميل الناموس (رومية 10:13). بل إن الله محبة (1يوحنا 8:4 و16)!
والآن اسأل نفسك وفتِّش داخلك: ما الذي عطَّل امتلاءك بالروح القدس.
ثانياً: طريق الملء
الملء للجميع. هذه هي النبرة العالية في لحن الحياة الروحية، ولو أن البعض يهملونها، كالمسجِّل الذي كان ينقل إحدى سيمفونيات بيتهوفن ولاحظ نبرة عالية جداً، فظنَّ أنها خطأ ولم يسجلها. وبعد أن أنهى النقل، راح يوقع اللحن، ولدهشته وجد أن اللحن لن يستقيم بدون تلك النبرة العالية! ولحن حياة الروح لا يستقيم إلا بملء الروح القدس، لذلك قال أحد الأتقياء: "كم نشكر الله لأن الملء للجميع، فلولاه ما أمكننا أن نحيا منتصرين".
من حقك أن تمتلئ بالروح القدس، بل إن من واجبك أن تمتلئ، فمن أجلك صلى المسيح، كما صلى من أجل تلاميذه الاثني عشر ليمتلئوا. وقد نال التلاميذ الموعد، فلماذا لا تناله أنت؟ إن المؤمنين الذين لا يتمتعون بملء الروح القدس "يتامى" (يوحنا 18:14)! فلماذا تبقى "يتيماً" والروح القدس مستعد أن يملأك؟
ويسمّي الكتاب أول ملء "معمودية" أما المرات التالية فيسميه "ملئاً". وهذا ما نجده في الشواهد التالية: أعمال الرسل 5:1، 17:2-21، 16:11،17. لكننا نرى بعد هذه "المعمودية" ملئاً يتكرر، فبطرس وبولس بعد معموديتهما بالروح القدس امتلئا مرات كثيرة.
والآن: هل اعتمدت بالروح القدس؟ هل قبلت روح القوة؟ لا تكن كتلك الفتاة التي شاهدت هدايا عيد الميلاد، فقالت لأخيها: "هذه ليست لنا لأنها مرتفعة الثمن!". بل تقدَّم بالإيمان قائلاً: "هيا نرث مواريثنا".
وقد وضع البشر شروطاً كثيرة للملء بالروح القدس، تشوِّش بل تطمس الطريق أمام الباحث عن الحق! لكن الكتاب المقدس لا يضع إلا شرطين فقط للملء، هما: الطاعة والإيمان.
الشرط الأول: الطاعة
قال الرسول بطرس: "الروح القدس الذي أعطاه الله للذين يطيعونه" (أعمال 32:5). فالبرهان الصادق على المحبة هو الطاعة، وهي طاعة المحبة وليست طاعة الإكراه. وهي تكريس الإرادة لله، وتسليم كل شيء عندنا بالكامل للرب.
والتكريس هو واجبك أنت أيها المؤمن، فأنت الذي تقدِّم نفسك طوعاً لله، وهو يستلم ما تقدمه له. والحقيقة هي أنك لست مِلكاً لنفسك، لأنك ملكٌ للمسيح. أنت مِلكه بحق الخَلق فهو جابلك: "كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يوحنا 3:1). وأنت مِلكه بحق الشراء لأنه افتداك بدمه، وفي هذا يقول الرسول بولس: "لأنكم قد اشتُريتم بثمن" (1كورنثوس 20:6). وأنت ملكه بحق العناية، لأنه منحك كل احتياجاتك، فأنت تقول: "الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء" (مزمور 1:23). وأنت مِلكه لأنك دُفعت إليه من الآب، وفي ذلك يقول المسيح للآب عنّا: "الذين أعطيتني" (يوحنا 11:17).
وتوضح القصة الحقيقية التالية هذه الفكرة: عمل ولدٌ قارباً، وأخذ يلعب به في البحيرة القريبة من بيته، فغرق القارب! وحزن الولد عليه جداً. وذات يوم وجد قاربه معروضاً في دكان، فدخل يطلبه من البائع. لكن البائع رفض أن يعطيه له إلا إذا دفع ثمنه. فاشتغل الولد حتى وفَّر ثمنه واشتراه. وما أن أمسك به حتى ضمَّه إلى صدره باعتزاز وقال: "يا قاربي العزيز، أنت لي مرتين: مرة لأني صنعتك، ومرة لأني اشتريتك". والمسيح يناديك ويقول: "أنت لي أربع مرات: مرة لأني صنعتك، ومرة لأني اشتريتك، ومرة لأني اعتنيت بك، ومرة لأنك دُفعت إليَّ من أبي".
أنت إذاً مِلكٌ للمسيح شرعاً، لكنك بالتكريس تكون له طوعاً، حين تقول له في طاعة: "أنا لك. امتلكني". وأنت للمسيح شرعاً، لكنك قد لا تكون مكرَّساً له. وعليك أن تأتي إليه خاضعاً طائعاً تسلّم له كل شيء حتى تمتلئ بالروح القدس.
غير أن كثيرين يخافون من تسليم حياتهم بالتمام للمسيح، لئلا يطلب منهم مطالب صعبة، أو يكلّفهم بأعمال شاقة، رغم أن المرنم يقول: "سَلِّم للرب طريقك واتَّكل عليه وهو يُجري، ويُخرج مثل النور برك وحقك مثل الظهيرة" (مز 5:37 و6). وقد كانت هذه مشكلة إحدى السيدات اللواتي طلبن الملء بالروح القدس، لكنها كانت خائفة من تكريس حياتها، حتى قال لها قسيس: "افترضي أن ابنك ارتمى في حضنك وقال لك إنه مستعد أن يعمل كل ما تطلبين منه، فهل تفكرين في إرساله إلى الصحراء، أو في تشغيله بأصعب الأعمال؟" ففهمت السيدة أن قلب الله أكثر حباً لنا من حب الأم لابنها. وهكذا سلَّمت تلك السيدة حياتها للرب تماماً بابتهاج، وبلا خوف!
وما أعظم البركات التي تنتج عن تكريس حياتنا للرب، وأكبر هذه البركات هي الملء. والطريق إلى اختبار الملء هو أن نُقبِل إلى يسوع ونشرب من نبعه الفياض، فنمتلئ، وتفيض منّا أنهار ماء حي (يوحنا 38:7). كتب الشاعر الهندي طاغور قصيدة قال فيها إن شحاذاً كان يستجدي المارة في طريق عام، رأى يوماً موكب الملك مقبلاً، فانتظر أن يعطيه الملك عطية كبيرة. وعندما مرَّ عليه موكب الملك، وقف الموكب، وتقدَّم الملك إلى الشحاذ وطلب أن يعطيه كل ما يملك! وفي دهشةٍ شديدة أخرج الشحاذ المبهوت بعض حبات القمح من جيبه وأعطاها للملك! فأخذ الملك الحبات، وأعطاها لوزيره، وطلب أن يعطي الشحاذ ما يعادل وزنها ذهباً! وصرخ الشحاذ في أسف: "ليتني أعطيتُه كل ما معي من القمح". ولكن الفرصة كانت قد ضاعت.
إن ملك الملوك حين يطلب منك أن تسلّمه كل شيء، سيردُّ لك ما هو أحسن من الذهب، لأنه سيعطيك الامتلاء بالروح القدس. وهو يعطي بلا كيل، فلا تتردد بل سلم له كل شيء في الحال لتمتلئ بالروح.
هل يمكنك أن تردد هذا الدعاء الحكيم: "اجعلني عبداً لك وإذ ذاك أصبح حراً. أرغِمني أن أسلِّم سيفي لك فأصبح منتصراً. فلكي أصل إلى العرش ينبغي أن أُلقي تاجي عند قدميك، ولكي أقف ظافراً رافع الرأس ينبغي أن أنحني أمامك".
هل عرفت كيف تسلم كل شيء عندك له؟ كتب رجل النهضات الروحية يوناثان إدواردز في مذكراته، وهو بعد تلميذ: "في هذا اليوم وهبت الرب كل شيء فيَّ، وسلمته كل ما عندي. أنا لست مِلكاً لذاتي، فليس لي الحق في جسدي. لقد سلمت كل قواي للرب، فلست أطلب الآن أو مستقبلاً أي حقٍ لنفسي".
قُل للرب مع المرنم "أنت هو ملكي يا الله" (مزمور 4:44)، ومع عروس النشيد "حبيبي لي وأنا له" (نشيد 16:2)، ومع رسول الأمم "الذي أنا له والذي أعبده" (أعمال 23:27)، ومع رجل الله الذي قال: "لتكن أنت لي وأنا لك. ليس لي فضة ولا ذهب. ليس لي إلا نفسي فامتلِكها يا الله".
كانت القديسة فرانسيس رِدْلي هافِرجال تقرأ كتاباً عنوانه "الكل للمسيح" عندما عرفت سر امتلاك المسيح لها وتكريس حياتها له، فسلَّمت نفسها تماماً للرب، وكتبت عنها أختها تقول: "كانت كل اختباراتها الماضية مثل شمعة ضعيفة أمام هذا الاختبار الذي كان كالشمس الساطعة". وكتبت هافرجال ترنيمتها التكريسية، التي ترجمها إلى العربية إبرهيم سركيس، تقول:
احفظ حياتي ليكــــــون تكريسها يارب لـــك
واحفظ زماني شاكـــراً فيه دواماً عمـــــــلـك
واحفظ يدي محرِّكـــــاً لها بحبك العظيــــــم
واحفظ خُطى رجليَّ في سلوك طرقك القويـم
صوتي احفظن مرنَّمـاً لملكي طول المـــدى
وشفتيَّ احفظهمـــــــــا للنُّطق في سرِّ الفـدى
إرادتي احفظ فهي لـك ليس مرادي الآن لـي
قلبي احفظن فيُمتَــــلك فهو لك العرش العلي
وفضتي احفظ والذَّهب لا يذهبن شيءٌ سُـدى
فكري وفعلي احفظهما وقوَّتي كما تشـــــــــا
حبّي احفظنه ذاخــــراً إياه كالكنز الثميـــــن
وكُنْ لنفسي حافظـــــاً إني ضعيفٌ يا معيـن
هيا كرِّس له حياتك كلها: وقتك ويدك ورجلك وصوتك وشفتيك وإرادتك وقلبك ومالك وفكرك وعواطفك ونفسك وكل شيء.. فتمتلئ بالروح القدس.
الشرط الثاني: الإيمان
قال الرسول بولس: "لننال بالإيمان موعد الروح" (غلاطية 14:3).
بعد أن سلمت نفسك للرب كلياً، وعزمت أن تطيعه بكل قلبك، صلِّ بإيمان واطلب أن يملأك الروح القدس، فقد قال المسيح: "إن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحري الآب الذي من السماء: يعطي الروح القدس للذين يسألونه" (لوقا 13:11). وقد انسكب الروح القدس على التلاميذ وهم في العلية يطلبون انسكابه. فالآن صلِّ طالباً أن تنزل نار الله، التي وعدنا بها، على المحرقة التي قدمتها على مذبحه المقدس، فتتعمَّد بالروح القدس ونار (متى 11:3). ثم ثق أن الرب قد أرسل الروح القدس ليملأك، فتنال بالإيمان موعد الروح. والمسيح يقول إن من يؤمن به يمتلئ بالماء الحي، حتى يفيض من بطنه، والماء الحي هو الروح القدس (يوحنا 37:7-39).
لا تقُل في صلاتك: "إن كنت تريد املأني" لأنه يريد أن يملأك، بل صلِّ "املأني الآن يا ملكي". واعلم وثِق أنه سيعطيك ملء الروح في الحال. قد لا تشعر بشيء. لا تخف، فالمسألة ليست في شعورك، بل في الثقة بمواعيد الله. والشعور يخدع لأنه من الجسد، ونحن لا نسلك حسب الجسد. ولا تستطيع مشاعر العالم أجمع أن تغيّر كلمة الله. وعندما يعلن الله للمؤمن أنه سيمتلئ بالروح القدس، فيجب أن يتأكد أنه قد امتلأ فعلاً، بصرف النظر عمّا يشعر به.
ويمكن أن تصلي هكذا :
"يا أبي الصالح، يا سيدي وملكي، يا صاحب السلطان على نفسي وجسدي وكل ما لي، ها أنا أضع عند قدميك كل شيء عندي، فامتلِكني لأكون لك كل أيام حياتي. وحسب وعدك المبارك بملء الروح لي، أطلب أن تسكب عليَّ الروح القدس. وأن تعمِّدني به الآن.
والآن أشكرك لأنك تمَّمت وعدك لي، وأشكرك لأني الآن أتمتع بملء الروح القدس. اقبل صلاتي في اسم المسيح. آمين".
والآن وقد امتلأت بالروح القدس، ستختبر أكثر وأكثر كل يوم أنه هو شخص الله الذي يسكن داخلك. وملء الروح القدس هو تدفُّق هذا النبع المروي ليشمل كل الحياة ويسيطر على كل جوانبها. فإذا كان الميلاد بالروح القدس هو بدء حياة المسيح فيك، فالملء بالروح هو سريان هذه الحياة فيك باستمرار، فيتصوَّر المسيح فيك (غلاطية 19:4)، وتسلك حسب الروح، وينمو فيك ثمر الروح، فتواصل رحلة إيمان منتصراً غالباً بعمل الروح القدس الدائم فيك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق