حال المؤمنين وحال الوثنين من ( اف 4 ) منيس عبد النور
حالة الوثنيين
«ف َأَقُولُ هَذَا وَأَشْهَدُ فِي الرَّبِّ، أَنْ لاَ تَسْلُكُوا فِي مَا بَعْدُ كَمَا يَسْلُكُ سَائِرُ الأُمَمِ أَيْضاً بِبُطْلِ ذِهْنِهِمْ، إِذْ هُمْ مُظْلِمُو الْفِكْرِ، وَمُتَجَنِّبُونَ عَنْ حَيَاةِ اللهِ لِسَبَبِ الْجَهْلِ الَّذِي فِيهِمْ بِسَبَبِ غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ. اَلَّذِينَ إِذْ هُمْ قَدْ فَقَدُوا الْحِسَّ، أَسْلَمُوا نُفُوسَهُمْ لِلدَّعَارَةِ لِيَعْمَلُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ فِي الطَّمَعِ » (أفسس 17:4-19).
جاء المؤمنون بالمسيح من خلفية وثنية جاهلية، وحملوا معهم صفات الأمم الوثنية وعاداتها الجاهلية. فطلب منهم الرسول بولس أن لا يسلكوا كما سبق أن سلكوا، ولا كما يسلك بقية الوثنيين، وقال لهم: "أشهد في الرب: أن لا تسلكوا فيما بعد كما يسلك سائر الأمم أيضاً ببُطل ذهنهم" (آية 17).
كان الرسول بولس يعرف فكر الرب، لأنه أعلنه له، فشهد للرب، وفي الرب الذي طلب منه أن يكون شاهداً له. فهو يتكلم باسم الرب وبسلطان المسيح، وعلى السامع والقارئ أن يطيع الأمر: "أيها الإخوة نسألكم ونطلب إليكم في الرب يسوع، أنكم كما تسلَّمتم منّا كيف يجب أن تسلكوا وتُرضوا الله، تزدادون أكثر" (1تسالونيكي 1:4).
أما طلب الرسول فهو: "أن لا تسلكوا فيما بعد كما يسلك سائر الأمم أيضاً ببُطل ذهنهم" (آية 17). كان أهل أفسس في ضلال وجاهلية، فكلَّف الله الرسول بولس بتوصيل رسالة الخلاص والنور لهم، وقال له: "لتفتح عيونهم، كي يرجعوا من ظلماتٍ إلى نور، ومن سلطان الشيطان إلى الله، حتى ينالوا بالإيمان بي غفران الخطايا ونصيباً مع المقدَّسين " (أعمال 18:26). فلما انفتحت عيونهم كان عليهم أن يعتزلوا الفساد القديم، وأن لا يمسّوا نجساً (2كورنثوس 17:6). فالسلوك الجديد هو طريقٌ جديد للحياة يختلف عن الطريق القديم الذي كانوا يسلكونه، وهو العمل الظاهر والخفي، وهو السيرة.
ولا يتحدث الرسول بولس عن الوثنيين باحتقار، كما احتقر الفريسي العشار وقال عنه: "ذلك العشار" (لوقا 9:18-14) فإن الفكر الوثني الباطل هو من عمل الشيطان، والسلوك الطاهر هو من عمل الروح القدس في القلب. ولم يحدث التغيير في حياة المؤمنين نتيجة مجهودهم، بل نتيجة قبولهم لخلاص المسيح المجاني، فتغيَّرت حياتهم. ويقول الكاتب الروماني بلني الصغير في رسالةٍ كتبها إلى الإمبراطور تراجان، في القرن الثاني المسيحي: "يعيش المسيحيون حياة الطهارة وسط الفساد الكثير". وما أعظم الفرق بين ما كان، وما صار، بفضل نعمة المسيح المجدِّدة.
بُطل ذهن الوثنيين
كان الوثنيون يسلكون بحسب "بُطل ذهنهم". والذهن هو القلب والعقل والضمير، وهذه الثلاثة هي التي تحمل معرفة الله، وتقود إلى الحكمة الصحيحة. لكن "ذهن" الوثنيين باطل، بمعنى أنه بدون هدف، وعديم القيمة، وفارغ من كل ما هو حق وجليل وعادل وطاهر. وكان باطلاً، لأنهم لم يستعملوا قوة العقل التي أعطاها الله لهم للخير، بل للشر، فوجب عليهم أن يسمعوا قول النبي إشعياء: "لماذا تَزِنون فضةً لغير خبز، وتعبكم لغير شِبع؟" " (إشعياء 2:55).
وقد ظهر بُطل ذهن الوثنيين في أنهم "لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله، بل حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي". فكان أن: "أسلمهم الله إلى ذهنٍ مرفوض ليفعلوا ما لا يليق" لأنهم كانوا "يحجزون الحق بالإثم" (رومية 21:1 و28). وهذا ما لا يفعله المؤمنون الذين رجعوا من الأباطيل إلى الله الحي الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها (أعمال 15:14). فكيف يقدرون بعد ذلك أن يسلكوا كما يسلك الوثنيون ببُطل ذهنهم؟ لقد تغيَّروا عن شكلهم بتجديد أذهانهم!
سبع صفات للوثنيين
وفي آيتي 18 و19 قدَّم الرسول بولس سبع صفات للوثنيين، هي تمام البُطل والفساد، فيقول: "إذ هم مظلمو الفكر، ومتجنّبون عن حياة الله، لسبب الجهل الذي فيهم، بسبب غلاظة قلوبهم. الذين إذ هم قد فقدوا الحِس، أسلموا نفوسهم للدعارة، ليعملوا كل نجاسة في الطمع". فلنتأمل هذه الصفات السبع:
1 - "مظلمو الفكر":
أظلم فكر الوثنيين بفعل الخطية، لأن الانغماس في ارتكابها يُظلِم العقل ويدمر الجسد. واستمر تأثير الظلام في قلوبهم. كانوا بعقولهم يعرفون الفلسفة (وهي حُب الحكمة)، ولكنها لم تحكّم سلوكهم. سأل الوالي بيلاطس السيد المسيح: "ما هو الحق؟" (يوحنا 38:18). ولكنه لم ينتظر حتى يسمع الإجابة، لأن فكره المظلم بجاهلية الوثنية لم يكن مستعداً لقبول الحق.
زعم الوثنيون أنهم حكماء ولكنهم كانوا جهلاء. كان نور العلم الذي عندهم ظلاماً! ومنهم أهل أثينا الذين "لا يتفرَّغون لشيء آخر إلا لأن يتكلموا أو يسمعوا شيئاً حديثاً" (أعمال 21:17).
ويشرح الرسول بولس سبب ظلام فكرهم فيقول: "الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله، لأنه عنده جهالة. ولا يقدر أن يعرفه لأنه إنما يُحكَم فيه روحياً" (1كورنثوس 14:2). والإنسان الطبيعي العادي، الذي لم يجدِّده الروح القدس لا يقبل الأمور الروحية، لأنه لا يعرف قيمة الحقائق التي أعلنها الروح القدس في كتاب الله، ولا يصدِّقها ولا يخضع لها، لأنه يظنها جهالةً لا فائدة فيها. والإنسان الطبيعي العادي لا يقدر أن يعرف الأمور الروحية، ولا قيمتها، لأن الذين يحبون الظلمة لا يعرفون قيمة النور. ولا يقدر أحدٌ أن يحكم في إعلانات الله الروحية إلا الإنسان الروحي الذي أناره الروح القدس وغيَّر قلبه. أما الإنجيل فهو مكتوم في الهالكين (2 كورنثوس 3:4).
صحيح أن فكر الوثنيين العقلي قد يكون مستنيراً بالفلسفة والعلم. لكن فكرهم الروحي مظلم بالخطية والشر. وماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر معرفة المسيح، فخسر نفسه؟!
2 - "متجنِّبون عن حياة الله":
أبعد الوثنيون أنفسهم بإرادتهم عن الحياة التي يعطيها الله، وهي الحياة التقية ذات المعنى! صحيحٌ أنهم كانوا "أجنبيّين عن رعوية إسرائيل" لأن الله لم يخلقهم وسط الشعب الذي أعطاه الشريعة . ولو أن هذا ليس ذنبهم. لكن الذنب أنهم جنَّبوا أنفسهم باختيارهم عن حياة التقوى التي تُرضي الله، فلم يفتحوا قلوبهم لله، وأبعدوا أنفسهم عن معرفته، وحرموا أنفسهم من الأُنس به، فضاعت منهم "حياة الله".
لقد نفخ الله في آدم نسمة حياة، لكن الخطاة أبعدوا أنفسهم عنها! ولا معنى للحياة بالجسد بدون حياة الروح. ويريد الله لنا حياة الروح، وقد كلَّف الرسول بولس أن يكرز للوثنيين ليفتح عيونهم، كي يرجعوا من ظلماتٍ إلى نور، ومن سلطان الشيطان إلى الله، حتى ينالوا غفران الخطايا ونصيباً مع المقدَّسين (أعمال 18:26).
3- "الجهل الذي فيهم":
والجهل هنا هو الجهل الروحي، الذي قال عنه المسيح: "تضلّون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله" (مرقس 24:12). وقال أيضاً: "فتِّشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية، وهي التي تشهد لي. ولا تريدون أن تأتوا إليَّ لتكون لكم حياة" (يوحنا 39:5 و40). كان السامعون يعرفون الكتب بعقولهم، لكن قلوبهم لم تدركها، فكان جهلهم الجهل الروحي، الذي ينبع من الظروف الشريرة المحيطة بالإنسان، أو الذي ينتج عن شر الإنسان نفسه.
قال الرسول بطرس للخطاة الذين رفضوا المسيح وصلبوه: "أنا أعلم أنكم بجهالةٍ عملتم" (أعمال 17:3). ويقول الرسول بولس: "الله الآن يأمر جميع الناس في كل مكان أن يتوبوا، متغاضياً عن أزمنة الجهل" (أعمال 30:17). لقد أظهر الله قدرته للبشر في خليقته ومصنوعاته، لكن قلبهم الغبي أظلم!
4 - "غلاظة قلوبهم":
القلب الغليظ هو القلب الحجري. وكلمة "غلاظة" تصف عدة أشياء: فهي اسم نوعٍ من الحجر القوي، الأكثر صلابةً من الرخام. وهي تصف الجزء الذي يصيبه مرض "الكالو" في الجسم، فلا يشعر ولا يحس، لكنه يُتعِب ويؤذي. كما تصف ترسُّب الكالسيوم في مفاصل الجسم فيمنع حركتها.
والمقصود أن قلب هؤلاء الأمم كان قاسياً كالحجر، ميتاً مؤذياً مثل الكالو، ملآناً بالحجر الذي يمنع الحركة نحو الخير والحق!
وقد تجيء غلاظة القلب بفعل الشيطان، الذي يُعمي الذهن، فإن "إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح، الذي هو صورة الله" (2كورنثوس 4:4).
وقد تجيء غلاظة القلب من الإنسان نفسه، كما أغلظ فرعون قلبه، فتركه الله لغلاظة قلبه (خروج 15:8 و32).
وقد تكون غلاظة القلب عقاباً للإنسان الذي يصرُّ على عصيان الله، كما يقول الإنجيل: "ومع أنه (المسيح) كان قد صنع أمامهم آيات هذا عددها، لم يؤمنوا به، ليتم قول إشعياء النبي: يارب، من صدَّق خبرنا، ولمن استُعلِنت ذراع الرب؟ لهذا لم يقدروا أن يؤمنوا، لأن إشعياء قال أيضاً: قد أعمى عيونهم وأغلظ قلوبهم لئلا يبصروا بعيونهم ويشعروا بقلوبهم، ويرجعوا فأشفيهم" (يوحنا 37:12-40).
5 - "فقدوا الحِسّ":
لم يعُد قلبهم الغليظ يأسف على ما يرتكبونه من شر، ولم يعُد ضميرهم يؤنبهم، ولم يعودوا يخجلون من الخطية، وفشلوا في القيام بأي إصلاح من عند أنفسهم.
بدأت الخطية عندهم بالتدريج. عادة يخاف الإنسان أول الأمر من الخطية، وإذا وقع فيها يحزن. ولكن بعد تكرار ارتكابها يتعوَّد على شناعتها، ويموت ضميره، مثل السكير الذي يسكر في الخفاء، ثم لا يهمُّه إن رآه الناس يترنح في الشارع بعد ذلك.
6 - "أسلموا نفوسهم للدعارة":
والدعارة هي الخروج عن الاتِّزان، والتمرُّد على القانون، وعدم ضبط النفس، وارتكاب الخطايا المنافية للعفَّة بدون خوفٍ من الله ولا خجلٍ من الناس. والإنسان الذي أسلم نفسه للدعارة لا يهتم بما يضايق الناس ما دام هذا يعطيه السرور! إنهم مثل يهوذا الإسخريوطي الذي فقد اتِّزانه، وتمرَّد على نعمة الله فأسلم نفسه لحب المال، وباع سيده بثلاثين من الفضة.
7 - "ليعملوا كل نجاسةٍ في الطمع":
بمعنى أن النجاسة صارت حرفة حياتهم ووظيفتهم. صارت تجارتهم وزراعتهم وشغل حياتهم! وكأنه لم يكفهِم أن يعملوا النجاسة، فكانوا طمّاعين فيها. ويصفهم الرسول بولس بقوله: "مملوئين من كل إثمٍ وزنا وشر وطمع وخبث، مشحونين حسداً وقتلاً وخصاماً ومكراً وسوءاً" (رومية 29:1)
والكلمة "طمع" معناها: طلب شيء يزيد عن الحق، فهو الرغبة الشرهة في الاستيلاء على ما يخصّ الآخرين، حتى يدوس الإنسان زميله ليحصل على ما يريد!
* * *
ويمكن أن نلخِّص جاهلية حالة الأمم في ثلاثة أمور:
1 - كان قلبهم مثل الحجر الصلب، فلم يشعروا بالخطأ الذي يعملونه.
2 - كانوا غارقين في الخطية حتى ضاع منهم الحياء والخجل منها.
3 - كانوا تحت نير الشهوة الطماعة، فلم يهتموا بأذى الناس إن كان هذا يعطيهم شهوتهم!
الفصل الثاني
حالة المؤمنين
"وأما أنتم فلم تتعلَّموا المسيح هكذا، إن كنتم قد سمعتموه وعُلِّمتُم فيه كما هو حقٌّ في يسوع. أن تخلعوا من جهة التصرُّف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور، وتتجدَّدوا بروح ذهنكم، وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البِر. وقداسة الحق" (أفسس 20:4-24).
بعد أن تحدث الرسول بولس عن تمام فساد حالة الوثنيين وجاهليتهم، أظهر الفرق بينهم وبين المؤمنين. وبدأ هذه الفكرة بقوله: "وأما أنتم فلم تتعلموا المسيح هكذا". وكلمة "أما" تبيِّن الفرق. الأمم في نجاسة، أما المؤمنون ففي قداسة الحق. تعلَّم الوثنيون الشر، أما المؤمنون فلم يتعلموا المسيح هكذا! لقد سمعوا من المسيح تعاليم جديدة غير مسبوقة، ورأوا منه معجزات محبة تلمس كل ناحية من نواحي الحياة. وأكثر من ذلك، أنهم تعلَّموه بالاختبار، فعرفوا قوته المغيِّرة التي منعتهم عن السلوك الشرير السابق.
ولا يقول الرسول بولس إنهم لم يتعلَّموا عن المسيح، لكنه يقول: "لم يتعلموا المسيح". فلا يكفي أن نعرف عن المسيح، بل يجب أن نعرفه هو. ليس المهم أن نعرف تعليمه، لكن المهم أن نقبله مخلِّصاً شخصياً وفادياً، ونختبر مع الرسول قوله: "لأعرفه وقوَّة قيامته وشركة آلامه متشبهاً بموته" (فيلبي 10:3).
1 - المؤمنون يتعلَّمون:
"إن كنتم قد سمعتموه وعُلِّمتم فيه كما هو حق في يسوع" (آية 21).
وليس المقصود بالقول "إن كنتم" الشك في أن الخبر وصلهم، لكن المقصود تأكيد وتحقيق وصول الخبر إليهم. لقد سمعوا المسيح يكلِّمهم بواسطة رسله الذين علَّموهم، وسمعوه بعد أن سكن في قلوبهم، يرشدهم إلى كل ما هو حق.. إذاً سمعوا الحق وتعلَّموه. والحق هو الدين الصحيح. وما داموا قد عرفوا المسيح فيجب أن يتركوا الخطية، لأن الله حقٌّ وقدوس. لقد سمعوا وتعلموا "في يسوع" فصاروا الآن خليقةً جديدة، ينطبق عليهم قول المسيح: "خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها فتتبعني" (يوحنا 27:10).
2 - المؤمنون يخلعون الإنسان العتيق:
"أن تخلعوا من جهة التصرُّف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور" (آية 22).
تعلَّم المؤمنون الحق، فيجب أن يخلعوا كل ما كانوا يمارسونه "من جهة التصرف السابق" أي من جهة المبادئ التي كانوا يسلكون بحسبها، فيخلعونها كما يخلع الإنسان ثوباً قذراً بالياً. إن ترقيع القديم لا يصلح، فيجب أن نخلعه ونلبس الجديد (لوقا 36:5-38).
و"الإنسان العتيق" هو الطبيعة الفاسدة التي لم تتجدَّد بعد بعمل الروح القدس. يسمِّيها "الإنسان" لأن الطبيعة الإنسانية فاسدة، لا ينفع معها الإصلاح، بل تحتاج إلى تغيير وتجديد كاملين. ويسمِّيها "العتيق" لأنها قديمة بالية متهرِّئة لا تستر!
ومحاولتنا إصلاح نفوسنا هي الترقيع. لكن الحق هو أننا "في يسوع" نخلع العتيق البالي الذي هو "الإنسان العتيق" أي الطبيعة الفاسدة، الذي يقول عنه الرسول: "أرى ناموساً آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي" (رومية 23:7). ويشرح عمله في قوله: "الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون" (غلاطية 17:5).
هذه الطبيعة الفاسدة التي فينا تجذبنا إلى أسفل، وتزيد من فسادٍ إلى فسادٍ، وتنتهي بهلاك صاحبها، فيجب أن نخلعها. وهي "بحسب شهوات الغرور" لأنها فاسدة تميل إلى الشهوات، كما أنها تخدعنا وتقتلنا، كما قيل: "الخطية.. خدعتني وقتلتني" (رومية 11:7).
هناك شهوة المكسب الحرام، وشهوة العظمة والسلطان الباطلَيْن، وشهوة اللذَّة الجسدية. وكل هذه غرور، وباطل الأباطيل، ولا منفعة منها كلها.
خدعت شهوات الغرور آدم وحواء فظنّا أن السعادة هي في الأكل من الشجرة المنهيّ عنها (تكوين 6:3)! وخدعت الغني الغبي فظن أنه يحيا طويلاً ليهدم مخازنه القديمة ويبني مخازن جديدة أكبر، فمات من ليلته (لوقا 20:12)! وخدعت الابن الضال فظن أنه يجد السعادة في البلاد البعيدة مغترباً عن أبيه (لوقا 14:15)!
وعلى المؤمن أن يخلع الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور، مع كل "أعمال الظلمة" (رومية 12:13).
3 - المؤمنون يتجدَّدون:
"أن تتجدَّدوا بروح ذهنكم" (آية 23)
لا يكفي أن نخلع الخطية، بل يجب أن نلبس القداسة. وهذا لا يكون إلا بالتجديد والتغيير اللذين يجريهما الروح القدس في قلوبنا. يعزم بعض الناس أن يعيشوا الحياة الصالحة، معتمدين على جهدهم وعزمهم وبرِّهم الذاتي، ولكن هذا لا يجدي ولا يستمر. نعم قد يُصلح الإنسان بجهده أحد أخطائه، ولكنه في الوقت نفسه يجد أنه وقع في خطإٍ آخر. الحاجة إذاً هي إلى التجديد بعمل الروح القدس، فإن الله "بمقتضى رحمته خلَّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس" (تيطس 5:3). وبهذا التجديد تعود النفس إلى صورة الله. وفي الجديد قوة وجمال، فنقول: "لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمالٍ صالحة قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها" (أفسس 10:2).
هذا التجديد يكون "بروح ذهنكم". ويقول القديس يوحنا فم الذهب إن هذا يعني "تجديد عقولكم وأفكاركم بعمل الروح القدس". فالتجديد الذي يجري في المؤمن تغييراً في قلبه وعقله، يغيّر نظرته للحياة، ويغيّر المبادئ التي كان يسير عليها، ويغيِّر ردود أفعاله، ويغيّر تقييمه للأمور. كما قال الرسول بولس: "تغيَّروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم، لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المَرْضيَّة الكاملة" (رومية 2:12).
وليس هذا التغيير في العادات والمظاهر الخارجية فقط، لكنه تغيير في مبادئ الحياة الداخلية بتجديد القلب، ويظهر تأثيره في التصرفات الخارجية، وصَلْب الجسد مع الأهواء والشهوات، والاجتهاد بتقوية الجانب الروحي بالصلاة ودراسة كلمة الله، وتمليك المسيح على الحياة بجملتها.
وفي كلمة "تتجددوا" معنى الاستمرار، فالإنسان يتجدد يوماً فيوماً. كل يوم يجعله أكثر قرباً من الله، وأفضل حالاً من اليوم السابق.
4 - "المؤمنون يلبسون الإنسان الجديد" :
"أن تلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق" (آية 24).
بعد أن يتوب المؤمنون ويخلعوا العتيق، يتجددون ويلبسون الإنسان الجديد. و"الإنسان الجديد" هو الطبيعة الجديدة التي يعطيها الله، "لأنه إن كان أحدٌ في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديداً" (2كورنثوس 17:5).
هذا الإنسان الجديد "مخلوق" لأن الله يخلقه فينا. وهو "مخلوق بحسب الله" بمعنى أنه على صورة الله (وفي الترجمة المنقَّحة "على مثال الله"). فالإنسان الذي يجدده الروح القدس هو الإنسان الذي على صورة الرحمان.
خلق الله آدم الأول "على صورته. على صورة الله خلقه" (تكوين 27:1) ولكنه ضل وضاعت منه الصورة الأصلية. فيعود الله يخلقه من جديد (في المسيح) على الصورة الأصلية التي كان فيها. ولذلك يقول الرسول: "لبستُم الجديد الذي يتجدَّد للمعرفة حسب صورة خالقه" (كولوسي 10:3). ويقول الرسول بطرس: "نظير القدوس الذي دعاكم كونوا أنتم قديسين في كل سيرة" (1بطرس 15:1).
والمؤمن الجديد مخلوق على صورة الله ومثاله "في البر وقداسة الحق". والبر هو التصرف العادل السليم من جهة جميع الناس، والبار هو العادل الذي يعطي كل صاحب حقٍ حقَّه، فيعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله. إنه "السالك بالكمال، والعامل الحق، والمتكلّم بالصدق في قلبه" (مزمور 2:15). ويبرهن لنا الروح القدس دائماً أن بر المسيح من نوعٍ فريد، فكل البشر أخطأوا، أما المسيح فهو الكامل وحده، الذي قال لأعدائه: "من منكم يبكّتني على خطية؟" (يوحنا 46:8) فلم يجرؤ أحدٌ أن يردّ عليه!
أما "قداسة الحق" فهي القداسة التي تنتج عن معرفة الحق، والقدرة على التمييز بين الحق والباطل. فالحق يحرِّرنا من الخطية وهذا يمنحنا الفرح والقداسة. والمسيح هو الطريق والحق والحياة، وبه وحده نجد الطريق إلى الآب وإلى القداسة.
لقد أعاد الله خلق المؤمنين، لذلك يقول زكريا الكاهن: "نعبده بقداسة وبرٍّ قدامه جميع أيام حياتنا" (لوقا 75:1). ويقول الرسول بولس: "بطهارةٍ وبلا لوم كنا بينكم أنتم المؤمنين" (1تسالونيكي 10:2).
ومن هذه الآيات نرى أن المؤمنين:
1 - يخلعون العتيق، ويلبسون الجديد،
2 - يخلعون الفاسد، ويلبسون المخلوق بحسب الله،
3 - يخلعون الذي بحسب شهوات الغرور، ويلبسون الذي بحسب الله في البر وقداسة الحق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق