من هو الروح القدس؟
من المهم جداً أن نعرف من هو الروح القدس.
هل هو مجرد تأثير إلهي، أو قوة روحية عظيمة؟
أم هو روح الله، الأقنوم الثالث في اللاهوت؟
يقول إقرار الإيمان: نؤمن بالروح القدس، الرب الحي، المحيي، المنبثق من الآب". فإن كان الروح القدس مجرد تأثير أو قوة إلهية، يحقُّ لنا أن نحصل عليها لنستخدمها في حياتنا الإيمانية، وخدماتنا الكنسيَّة، وعملنا الروحي. لكن إن كان الروح القدس هو روح الله الذي يحيي موتى الذنوب، فيجب أن نُسلِّم له نفوسنا، ليستخدمنا كما يشاء هو. وما أكبر الفرق بين استخدام الروح لنا، واستخدامنا له.
ومن المهم أن نعرف إن كان هو الأقنوم الثالث في اللاهوت، فنقدم له التعبُّد، ونؤمن به، ونُخلِص له، ونحبه.. أو إن كان مجرد قوة تساعدنا في حياتنا الروحية!
غير أن كل قارئ للكتاب المقدس يرى بوضوح أن الروح القدس شخص، ذو صفات إلهية، ويقوم بأعمال لا يقوم بها إلا الله، وقد وهب بركاتٍ عظيمة لكل المؤمنين الذين عرفوه وسلَّموا نفوسهم له باعتباره الأقنوم الثالث في اللاهوت. ويُنسَب إليه كشخص: العقل والمعرفة، ومشاعر المحبة والحزن. ويقف الناس منه المواقف التي يقفونها من الأشخاص، فيثورون ويكذبون ويجدّفون عليه، ويزدرون به، ويُحزنونه. فليس الروح القدس تأثيراً ولا انفعالاً ولا مجرد قوة، بل هو شخص الله ذاته. إنه روح الله، وأحد الأقانيم الثلاثة "فإن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الآب والكلمة والروح القدس، وهؤلاء الثلاثة هم واحد" (1يوحنا 7:5). (كلمة "أقنوم" كلمة سريانية تدل على من يتميَّز عن سواه، بغير انفصال عنه).
ويُسمَّى الروح القدس تسميات كثيرة في الكتاب، نذكر منها "روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب" (إشعياء 2:11)، و"روح النعمة" (زكريا 10:12)، و"المعزي" (يوحنا 26:14)، و"روح الحق" (يوحنا 17:14 و26:15)، و"روح القداسة" (رومية 14:1)، و"روح الحياة" (رومية 2:8)، و"روح المسيح" (رومية 9:8)، و"روح التبنّي" (رومية 15:8)، و"روح الابن" (غلاطية 6:4)، و"روح الموعد القدوس" (أفسس 13:1)، و"روح الحكمة والإعلان" (أفسس 17:1)، و"روح يسوع المسيح" (فيلبي 19:1)، و"روح المجد" (1بطرس 14:4).
وتسمية الروح الإلهي بالروح القدس يشير إلى عمله غير المنظور، وهو إنارة أرواحنا وتجديدها وتقديسها وإرشادها. وهو ينشئ كل الفضائل فينا. وتسميته بالروح القدس تميِّزه عن كل الأرواح المخلوقة، الأقل منه في القداسة بما لا يُقاس.
فإذا تأملنا عمل الروح القدس في الكتاب المقدس، نراه يقدّم الأدلّة على لاهوت الروح القدس:
1 - الروح القدس أقنوم مساوٍ للآب والابن: يقدم لنا الكتاب المقدس الله الروح القدس، مع الله الآب والله الابن في صفٍّ واحد، فيقول إنه كان يرفُّ على وجه المياه (تكوين 2:1) مشيراً إلى اشتراكه في الخَلق. ويقول إن الله منح القوة لموسى ورفقائه بروح الله (عدد 17:11 و25). وسكب الله روحه على شعبه ليُرجِعهم إليه (إشعياء 3:44). وقال الله مشيراً إلى عظمة قوته ومجد قدرته: "لا بالقدرة ولا بالقوة، بل بروحي" (زكريا 6:4). ويقول المسيح: "اذهبوا وتلمِذوا جميع الأمم، وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (متى 19:28). فلا يقول "بأسماء" الآب والابن والروح القدس، بل "باسم" الإله الواحد: الآب والابن والروح القدس. وفي البركة الرسولية يقول: "نعمة ربنا يسوع المسيح، ومحبة الله، وشركة الروح القدس مع جميعكم" (2كورنثوس 14:13). وبدأ الرسول يوحنا سفر الرؤيا بتحية المؤمنين قائلاً: "نعمة لكم وسلام من الكائن والذي كان والذي يأتي، ومن السبعة الأرواح التي أمام عرشه (أي من الروح القدس في صفاته وأعماله المتنوِّعة الكاملة، مع وحدة أقنومه) ومن يسوع المسيح" (رؤيا 4:1 و5). وهل يُعقَل أن يقترن اسمٌ باسم الله سبحانه إلا إن كان مساوياً لله؟
بل تعال بخشوع نرى الأقانيم الثلاثة معاً، عند معمودية المسيح، فالله الآب يعلن من السماء أن هذا هو ابنه الحبيب الذي به سُرَّت نفسه، ويعتمد الابن الحبيب على الأرض في مياه نهر الأردن، بينما يحل الروح القدس عليه بهيئة جسميَّة مثل حمامة (متى 16:3 و17). وفي تعبُّد واحترام نراهم في صلاة الله الابن، إلى الله الآب، أن يرسل الله الروح القدس (يوحنا 11:14 و16). ولما جرَّب إبليس المسيح اقتاده الروح القدس إلى البرية حيث واجه المجرب (متى 1:4). وعندما أعلن المسيح رسالته في مجمع الناصرة قال: "روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشِّر المساكين" (لوقا 18:4). ولما اتَّهمه شيوخ اليهود أنه بقوة الشياطين يُخرِج الشياطين، قال: "أنا بروح الله أُخرِج الشياطين، فقد أقبل عليكم ملكوت الله" (متى 28:12). وفي اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع ونادى: "إن عطش أحدٌ فليقبل إليَّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي. قال هذا عن الروح القدس الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه" (يوحنا 37:7-39). وقد أرسل المسيح الروح القدس إلى تلاميذه، وقال لهم: "ومتى جاء المعزي الذي أرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق، الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي" (يوحنا 26:15).
وفي إجلالٍ نستمع للرسول بطرس يتحدث عن الأقانيم الثلاثة يوم الخمسين فيقول: "يسوع هذا إذ ارتفع بيمين الله، وأخذ موعد الروح القدس مِن الآب، سكب هذا الذي أنتم الآن تبصرونه وتسمعونه" (أعمال 33:2).
وهكذا نرى الروح القدس، الله الروح، الأقنوم الثالث، الذي يستحق عبادتنا وإجلالنا وتعظيمنا. فلنتقدم أمامه في خشوع كامل، ولنسلِّمه القلب والحياة.
وكلمة "الروح" معناها "ريح" أو "نسمة" أو "نفخة". فالروح القدس هو نسمة الله القدير. وقد قال المسيح لنيقوديموس: "الريح تهبُّ حيث تشاء، وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا أين تذهب. هكذا كل من وُلد من الروح" (يوحنا 8:3)، وهو بهذا يشبِّه الروح بالريح. فالريح لا تُقاوم، بل تهب حيث تشاء. والريح لا تُرى، والروح القدس لا يُرى. والريح لا تُفحص، فأنت "لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب" وهكذا الروح القدس. ونحن بدون الروح نموت، ونحتاج إلى نسمات الهواء، والروح القدس يحيي، كما نفخ المسيح في تلاميذه وقال لهم: "اقبلوا الروح القدس" (يوحنا 22:20) فنالوا قوة لحياتهم الروحية.
ويشبه عمل الروح القدس فينا تأثير العقل في الجسد، فالعقل يسيطر على الجسد ويستخدمه كما يشاء، بطريقة لا نقدر أن ندركها. ويَصْدُق هذا أيضا على تأثير أفكار الإنسان على عقل إنسانٍ آخر وإقناعه بطريقة فعالة.
وإن كان في إمكان إبليس أن يغوينا بالشر ويدفعنا نحوه، ويلقي التجارب القوية في عقولنا وقلوبنا، أفليس في قدرة الله أن يقودنا إلى التوبة، ويصلح نفوسنا، ويرشدنا إلى الخير بواسطة روحه القدوس؟
ويقترن تأثير الروح القدس مع الإرادة البشرية الحرَّة بطريقةٍ تفوق إدراكنا، فهو يعمل ما يشاء في البشر ويؤثر فيهم إلى أن يختاروا بإرادتهم الحرة ما يريدهم هو أن يفعلوه لخيرهم ولخير الآخرين، دون أن يجبرهم على العمل ضد إرادتهم. إنه بتأثيره المحب فيهم يجعلهم يريدون ويختارون نفس ما يريده هو، بطريقة لا تعارض حريتهم، ولا تلاشي مسئوليتهم عن أعمالهم.
2- يخلق: فيقول إمام الصابرين أيوب: "روح الله صنعني، ونسمة القدير أحيتني" (أيوب 4:33). ويقول المرنم: "ترسل روحك فتُخلَق وتجدِّد وجه الأرض" (مزمور 30:104).
3 - يعطي الولادة الجديدة: وهي ولادة روحية، عندما ننالها نجد أنفسنا وقد تغيَّرنا تماماً، وصرنا في حياة روحية جديدة وقد كرهنا الخطية وسعينا وراء القداسة. ولذلك نقول إن الروح القدس هو الرب المحيي. قال الرسول بولس: "إن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكناً فيكم، فالذي أقام المسيح من الأموات، سيُحيي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم" (رومية 11:8).
يقنع الروح القدس الإنسان أنه خاطئ يحتاج إلى من ينقذه من غضب الله الذي يستحقه البعيدون عن الله، وقال المسيح: "ومتى جاء ذاك (الروح القدس) يبكِّت العالم على خطية وعلى برٍّ وعلى دينونة" (يوحنا 8:16). وعندما يتبكَّت الخاطئ ويتوب يمنحه الروح القدس ولادة جديدة، كما قال المسيح لنيقوديموس: "المولود من الجسد جسدٌ هو، والمولود من الروح هو روح" (يوحنا 6:3). وقال الرسول يوحنا: "كل من وُلد من الله يغلب العالم" (1يوحنا 4:5).
4 - يقدِّس الحياة: يطهر الروح القدس الإنسان الذي يعطيه فرصة العمل فيه، فينمو في القداسة والمعرفة، ويتحقق معه القول الرسولي: "اغتسلتُم، بل تقدَّستم بل تبرَّرتُم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا" (1كورنثوس 11:6). ويتمم الروح القدس القداسة فينا بسيطرته على عواطفنا ومرافقته الدائمة لنا وإرشادنا، لتصير أجسادنا هياكل مقدسة له، ويحل روح المجد والله علينا (1بطرس 14:4).
5 - يوحي بالأسفار المقدسة: قال الرسول بولس: "كل الكتاب هو موحى به من الله" (2تيموثاوس 16:3) وقال الرسول بطرس: "لأنه لم تأتِ نبوَّة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (2بطرس 21:1). و"حسناً كلَّم الروح القدس آباءنا بإشعياء النبي" (أعمال 25:28). ويقول لوقا البشير: "الرب إله إسرائيل هو الذي تكلم بفم أنبيائه القديسين" (لوقا 70:1). فالرب الروح هو الذي تكلم على فم الأنبياء.
6 - موجود في كل مكان: يقول المرنم: "أين أذهب من روحك، ومن وجهك أين أهرب؟ إن صعدتُ إلى السماء فأنت هناك، وإن فرشتُ في الهاوية فها أنت. إن أخذتُ جناحي الصبح وسكنتُ في أقاصي البحر، فهناك أيضاً تهديني يدك وتمسكني يمينك" (مزمور 7:139-10). وقال المسيح: "روح الحق، الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه. وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكثٌ معكم ويكون فيكم" (يوحنا 17:14). وهو يسكن في كل مؤمن ويحل بقوته في الكنيسة.
7 - يعرف كل شيء: قال المسيح: "أما المعزي، الروح القدس، الذي سيرسله الآب باسمي، فهو يعلِّمكم كل شيء، ويذكِّركم بكل ما قلتُه لكم... أما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق" (يوحنا 26:14 و13:16). وقال الرسول بولس: "ما لم ترَ عين ولم تسمع أذن، ولم يخطر على بال إنسان، ما أعدَّه الله للذين يحبونه، فأعلنه الله لنا نحن بروحه. لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله. لأن مَن مِن الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه؟ وهكذا أيضاً أمور الله لا يعرفها أحد إلا الله" (1كورنثوس 9:2-11).
8 - أزلي: قبل تكوين الأرض والسموات كان يرفّ على وجه المياه (تكوين 2:1). ويخبرنا الوحي أنه "بنفخته السموات مسفرة" (مشرقة) (أيوب 13:26). ومكتوب أيضاً أن المسيح "بروح أزلي قدَّم نفسه للّه" (عبرانيين 14:9). ومن الذي يمكن أن يقال عنه بحق إنه أزلي إلا "العلي المرتفع ساكن الأبد، القدوس اسمه" (إشعياء 15:57).
9 - صاحب سلطان: وجَّه الأمر للتلاميذ أن "افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه.. فهذان إذ أُرسلا من الروح القدس.. سافرا" (أعمال 2:13 و4) ويقول أيضاً: "منعهم الروح القدس أن يتكلموا بالكلمة في آسيا". ولما حاولوا أن يذهبوا إلى بيثينية "لم يدعهم الروح" (أعمال 6:16 و7). وبخصوص المواهب يقول: "إن الروح يقسم لكل واحد بمفرده كما يشاء. فإنه يعطي لواحد بالروح كلام حكمة، ولآخر كلام عِلم بحسب الروح الواحد، ولآخر إيمان بالروح الواحد" (1كورنثوس 8:12-11). والأعمال المصحوبة بسلطان هي من مميزات "الإله الحكيم وحده" (رومية 27:16).
ويشهد الوحي عن محاوري استفانوس أنهم "لم يقدروا أن يقاوموا الحكمة والروح الذي كان يتكلم به" (أعمال 10:6)
جاء في نبوة النبي حزقيال: "فقال (الرب) لي (للنبي): تنبَّأ للروح. تنبأ يا ابن آدم وقُل للروح، هكذا قال السيد الرب: هلمَّ يا روح من الرياح الأربع، وهُبَّ على هؤلاء القتلى ليحيوا. فتنبأت كما أمرني، فدخل فيهم الروح فحيوا، وقاموا على أقدامهم جيشٌ عظيمٌ جداً جداً" (حزقيال 9:37 و10).
10 - يصنع المعجزات: يقول الكتاب المقدس إن الله وحده هو صانع العجائب (مزمور 18:72). ويقول الرسول بولس إن العجائب والمعجزات تمَّت: "بقوة روح الله" (رومية 19:15).
والآن لنخلع أحذيتنا من أرجلنا، ولنقف خاشعين أمام الله الروح القدس، نسأل: كيف نمتلئ به، أو بالحري: كيف يمتلكنا ويحكم تصرُّفاتن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق