ثمر الروح القدس ( الثمرة الثامنه الوداعه )

ثمرة الثامنة
الوداعة




الوداعة صفة داخلية تظهر في التصرُّفات اليومية. قال أحد المؤمنين لقائده الوديع المتواضع المحب: "في وجودي معك أحسُّ أن الله يسكب في جوفي عسلاً!" وهذا يعني أن الله بارك القائد بثمر الروح.
والوداعة هي الخضوع لله بتواضع، وهي طاعة كلمته. وهي الحِلم والتسامح، والقابلية للتعلُّم، والغضب المقدس على الخطأ فقط وليس على الخاطئ. وهي ثمرة عظيمة من ثمر الروح القدس، لأن المسيح وصف بها نفسه عندما قال: "تعلَّموا منّي لأني وديعٌ ومتواضع القلب" (متى 29:11). ووصف بها الرسول بولس المسيح عندما قال: "أطلب إليكم بوداعة المسيح" (2كورنثوس 1:10). وقد ارتبطت صفة الوداعة بالمحبة في كورنثوس الأولى 21:4، وبالتواضع في أفسس 2:4 وبالمحبة والصبر في تيموثاوس الأولى 11:6.
هذه الصفة العظيمة مطلوبة من كل المؤمنين، إذ يقول المسيح: "طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض" (متى 5:5) ويقول الرسول بولس: "فالبسوا كمختاري الله القديسين المحبوبين أحشاء رأفاتٍ، ولطفاً، وتواضعاً، ووداعةً، وطول أناة" (كولوسي 12:3) ويقول: "ليكن حِلمكم (أو: وداعتكم) معروفاً عند جميع الناس" (فيلبي 5:4). وهي صفة الله الآب، فقال له داود: "لطفك (أو: وداعتك) يعظِّمني" (مزمور 35:18) وصفة الله الابن (متى 29:11) وصفة الله الروح القدس (غلاطية 23:5).
وصفة الوداعة مطلوبة في الشباب، كما يقول الرسول بولس لتلميذه تيموثاوس: "اتبع البر والتقوى والإيمان والمحبة والصبر والوداعة" (1تيموثاوس 11:6). وهي مطلوبة كزينةٍ للسيدات "زينة الروح الوديع الهادئ، الذي هو قدام الله كثير الثمن" (1بطرس 4:3) كما أنها مطلوبة في القادة، فيجب أن يكون القائد "حليماً غير مخاصمٍ ولا محب للمال" (1تيموثاوس 3:3). وقد اتَّصف بولس الرسول بهذه الصفة فقال لأهل تسالونيكي: "كنا مترفِّقين في وسطكم كما تربي المرضعة أولادها" (1تسالونيكي 7:2).
ولتكون لنا وداعة المسيح نحتاج لسيطرة روحه القدوس علينا.
ولنتأمل ثلاثة معانٍ للوداعة:

أولاً: الوديع هو الذي يخضع للروح القدس
الوديع هو الذي يُخضِعه الروح القدس ليعمل مشيئة الله بفرح، والنموذج في ذلك هو المسيح الذي قال: "الحق الحق أقول لكم، لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل، لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك" (يوحنا 19:5 و20). وقد نتعجَّب من أن الابن يخضع للآب. لكن يجب أن نذكر أن المسيح اتَّخذ طبيعةً إنسانية، فهو كامل الألوهية، وكامل الإنسانية. فإن قلنا إن المسيح هو الله نقول الحق، ولكن ليس كل الحق، لأن المسيح هو "الكلمة الذي صار جسداً" (يوحنا 14:1). وإن قلنا إن المسيح إنسان نقول الحق، ولكن ليس كل الحق، لأن المسيح هو "الله الذي ظهر في الجسد" (1تيموثاوس 16:3). وواضحٌ أن العظيم يقدر أن يتنازل، ولكن الحقير لا يقدر أن يرتفع. ويقول الوحي إن المسيح إذ كان في صورة الله، لم يحسب خلسةً أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه الناس (فيلبي 6:2 و7). وربما ننسى إنسانية المسيح ونحن نفكر في ألوهيته، أو قد ننسى ألوهيته ونحن نفكر في إنسانيته، لكننا يجب أن نذكر أنه "ابن الله" و"ابن الإنسان" في آنٍ واحد. وكإنسان كامل أخضع نفسه لعمل مشيئة الآب بكامل رغبته، ولم يكن يعمل إلا ما ينظر الآب يعمل.
يُصوِّر لنا الإنجيل المقدس الإنسان ثائراً ضد الله، لا يريد أن يعمل المشيئة الإلهية. لكن الروح القدس يُخضِعه، فيعمل مشيئة الله بفرح. ويمكن أن نقول إن الروح القدس "يستأنس" الإنسان الثائر، ويجعله وديعاً نافعاً للخدمة. وقد وصف النبي هوشع الإنسان البعيد عن الله بأنه "جامح" يثور ضد الانضباط، ولكن الرب يستأنسه ويرعاه في رحب فسيح، فيصبح كحملٍ وديع. قال: "جمح إسرائيل كبقرةٍ جامحة. الآن يرعاهم الرب كخروفٍ في مكان واسع" (هوشع 16:4). حقاً، يجعل الروح القدس الجامح حملاً، والمتوحش وديعاً خاضعاً للإرادة الإلهية. ويمضي النبي هوشع فيقول: "أفرايم موثقٌ بالأصنام. اتركوه" (هوشع 17:4). صحيحٌ أن الأصنام قيَّدته وأتلفت حياته. ولكن النصيحة هي: "اتركوه" لمحبة الله التي تتعامل معه، فيترك الجموح والثورة والقيود ويخضع لله.
وأذكر مثَلين من شخصين عمل الروح القدس فيهما، فأخضع الثائر، وجعله وديعاً:
1 - بولس : كتب عن نفسه: "أنا الذي كنت قبلاً مجدِّفاً ومضطهِداً ومفترياً، ولكنني رُحمت لأنني فعلت بجهلٍ في عدم إيمان. وتفاضلت نعمة ربنا جداً.. لهذا رُحِمتُ" (1تيموثاوس 13:1-16) فصار المفترس أليفاً، والجامح خاضعاً، لأن الروح القدس "استأنسه" وجعله يقول: "ماذا تريد يا رب أن أفعل" (أعمال 6:9).
2 - أنسيمس: وهو عبدٌ هرب من بيت سيده فليمون بعد أن سرق فضة مولاه، وسافر إلى روما. وهناك فتح قلبه للمسيح على يدي الرسول بولس، فاستأنسه الرب وتغيَّرت حياته، فكتب عنه الرسول بولس إلى فليمون: "الذي كان قبلاً غير نافع لك، ولكنه الآن نافعٌ لك ولي" (فليمون 11). نافع للسيد الذي سبق أن سرقه، ونافع لبولس، ويمكن أن يخدم المسيح معه.
لقد كان بولس في هجومه على الكنيسة، وكان أنسيمس في سرقته لمولاه، هادرَيْن كشلالٍ جامحٍ بمياهه المتدفقة بغير حساب ولا ضابط. ولكن عندما أخضعهما الروح القدس صارا كالشلال الذي يتحكَّم المهندسون في مياهه، فيولِّد الكهرباء التي تنير، ويخدم البشر. وكل نفس بعيدةٍ عن الله جامحة تحطم كل شيء، لكن عندما تستسلم لله تثمر وداعةً، وبدلاً من أن تهدم تبني، وبدلاً من أن تقلع تغرس، وبدلاً من أن تلعن تبارك، وبدلاً من أن تظلم تنير.
ثانياً: الوديع هو الذي يفتح قلبه ليتعلَّم
نجد في المسيح مثالاً عظيماً في الانفتاح للتعلُّم وهو في الثانية عشرة من عمره، فقد بحث عنه أبواه فوجداه "بعد ثلاثة أيامٍ في الهيكل، جالساً في وسط المعلّمين يسمعهم ويسألهم، وكل الذين سمعوه بُهِتوا من فهمه وأجوبته" (لوقا 46:2 و47). ونرى هنا ألوهية المسيح وهو يسأل معلّمي الدين اليهود وهم مندهشون من فهمه وأجوبته، كما نرى إنسانيته وهو يسمعهم ليستزيد معرفةً.
ويقول الرسول يعقوب: "اقبلوا بوداعة الكلمة المغروسة القادرة أن تخلص نفوسكم" (يعقوب 21:1) فالوديع هو الذي يفتح قلبه ليتعلم، أما الجاهل فهو الذي يرفض المعرفة. والإنسان الوديع يشبه الإسفنج التي تتشرَّب، لأنه يريد أن يمتلئ ويستزيد. "بمَ يزكّي الشاب طريقه؟ بحفظه إياه حسب كلامك. بكل قلبي طلبتك. لا تُضلَّني عن وصاياك. خبأت كلامك في قلبي لكيلا أخطئ إليك. مبارك أنت يا رب. علِّمني فرائضك. بشفتيَّ حسبتُ كل أحكام فمك. بطريق شهاداتك فرحتُ كما على كل الغِنى. بوصاياك ألهج وألاحظ سبلك. بفرائضك أتلذَّذ. لا أنسى كلامك" (مزمور 9:119-16).
ويعلّمنا الروح القدس كيف نستفيد من كلمة الله، ويذكِّرنا بكل ما قاله المسيح لنا، ويرشدنا إلى جميع الحق (يوحنا 13:16) فنطلب الاستزادة من المعرفة، إذ نجلس أمام الكتاب المقدس كطفلٍ صغير يفتح عينيه وأذنيه وقلبه ليسمع قصص معاملات الله مع شعبه، ثم يطلب أن يسمع ما سبق أن سمعه، بغير ملل. فليساعدنا الله لنحتذي بمثال مريم أخت مرثا ولعازر، التي جلست عند قدمي يسوع وكانت تسمع كلامه. أما مرثا فقد صرفت وقتها في تجهيز الطعام للمسيح والقيام بواجبات الضيافة الجسدية. وعندما اشتكت مرثا أختها مريم للمسيح أنها تركتها تخدم وحدها، قال لها المسيح: "أنتِ تهتمّين وتضطربين لأجل أمور كثيرة. ولكن الحاجة إلى واحد. فاختارت مريم النصيب الصالح الذي لن يُنزَع منها" (لوقا 38:10-42).

ثالثاً: الوديع هو الذي يغضب لسببٍ مقدَّس
هناك نصيحة حكيمة تقول: "الجواب الليِّن يصرف الغضب" (أمثال 1:15) وأخرى تقول: "ببطء الغضب يُقنَع الرئيس، واللسان الليِّن يكسر العظم" (أمثال 15:25). ولكن هناك نصيحةً رسولية تقول: "اغضبوا ولا تخطئوا" (أفسس 26:4) وهي مقتبسة من المزامير: "ارتعدوا ولا تخطئوا" (مزمور 4:4). إذاً هناك غضب مرفوض، وهناك غضب مقدس يصل إلى حدِّ الارتعاد، من أجل الخير والسلام والصلاح، ويكون صاحبه مقدساً ووديعاً.
أما مثالنا في الغضب المقدس فهو المسيح، الذي عبَّر عن غضبه عدة مرات:
غضب مرتين على التجّار الذين دنَّسوا هيكل الرب وجعلوه بيت تجارة، وذلك بالاتفاق مع الكهنة. المرة الأولى كانت في مطلع خدمته، والمرة الثانية كانت في نهايتها (يوحنا 13:2-22 ولوقا 45:19-48). في التطهير الأول صنع المسيح سوطاً من حبال، وقال: "ارفعوا هذه من ههنا. لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة". أما في التطهير الثاني فلم يضرب بالسوط، بل اكتفى بالقول: "بيتي بيت الصلاة يُدعَى، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص". في التطهير الأول طالبه رجال الدين بمعجزة تبيِّن أن له السلطان أن يطهِّر الهيكل. أما في التطهير الثاني فقد تشاوروا عليه ليقتلوه. وبعد التطهير الأول ترك المسيح أورشليم وذهب إلى اليهودية، أما بعد التطهير الثاني فقد رُفع على الصليب.
وغضب المسيح عندما جاء رجال الدين اليهود برجلٍ يابس اليد في يوم سبتٍ ليروا إن كان المسيح يشفيه في يوم السبت، فيكون بهذا قد كسر وصية السبت. فقال لهم: "هل يحلّ في السبت فعل الخير أو فعل الشر؟ تخليص نفس أو قتل؟" فسكتوا. فنظر حوله إليهم بغضبٍ، حزيناً على غلاظة قلوبهم، وقال للرجل: "مُدّ يدك" فمدَّها، فعادت صحيحةً كالأخرى (مرقس 1:3-5).
الذي يغضب غضباً أنانياً لمصلحته الشخصية ليس وديعاً، أما الوديع فهو الذي لا يغضب إلا في سبيل الحق. ويريدنا الإنجيل أن نكون إيجابيين فعَّالين لخدمة الرب. هناك غيرة مقدسة حسب المعرفة، لا الغيرة الجاهلة التي هي ضد روح المسيح. ولنا في تأديب أولادنا مثلٌ من الوداعة التي تغضب غضباً مقدساً. فعندما يخطئ أحد أبنائنا، نغضب على الخطأ الذي ارتكبه، ونوقّع عليه العقاب، لا لأننا نكرهه، لكن لأننا نريد أن نقوِّمه ونصلح من شأنه.
هناك نصيحة تقول: لا تؤدّ‎ب ابنك وأنت غاضب، لأن ابنك لن يضبط أعصابه أمام أبٍ فَقَد ضَبْط أعصابه. اهدأ أنت أولاً قبل أن تعاقبه. وليكن هناك اتفاق بين الوالدين والأولاد على قانون عقوباتٍ تتفق عليه العائلة. وعند ما يخطئ الطفل يهدئ الأب أعصابه، ويشرح لطفله خطأه، ثم يسأله عن نوع العقاب المتَّفق عليه، وبعد ذلك يوقع عليه العقاب. وعندما يبكي الطفل يحتضنه أبوه ويقبِّله، ويقول له إنه عاقبه لأنه يحبه. ويستمر محتضناً طفله حتى يهدأ، ليحسَّ الطفل بالحب والحنان، ويتأكد أنه محبوب ومقبول، وأن الضرب عقابٌ لخطئه فقط. ثم يقول أبوه له إنه يحبه، لكنه يكره الخطأ الذي ارتكبه. ولا يوجد أبٌ أو أمٌّ يقدر أن ينفذ هذه النصيحة التربوية إلا إن ملك الروح القدس حياته ومشاعره.
وليكون الغضب مقدساً أعود فأذكر الوصية الرسولية: "اغضبوا ولا تخطئوا، ولا تغرب الشمس على غيظكم، ولا تعطوا إبليس مكاناً" (أفسس 26:4 و27).
والسؤال الكبير هو: ومن يستطيع أن يغضب ولا يخطئ؟ والإجابة الكبيرة هي: الذي يسلّم نفسه تماماً لعمل الروح القدس ليستلم روح الله قيادة حياته.

صلاة
أيها الرب الوديع، أَخضِعني لمشيئتك الصالحة، وانزع كل عصيان فيَّ، لأكون وديعاً، فأقبل كلمتك المغروسة في قلبي وأعمل بحسبها، فأنمو في الخضوع لك، وفي محبة كلمتك. فإذا غضبتُ ليكن غضبي لمجدك وحدك، وليس بسبب ثورتي الأنانية الخاطئة. ولا تسمح أن تغرب الشمس على غيظي حتى لا أعطي لإبليس مكاناً. آمين.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

LinkWithin

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...