الثمرة التاسعة
التعفُّف
التعفف هو ضبط النفس، ووضع العواطف تحت سلطان العقل الذي يحكمه الروح القدس. قال الفيلسوف أفلاطون: "العفيف هو صاحب النفس التي انتصرت على رغباتها وغلبت حبها للملذّات". ولكن أفلاطون لم يقُل لنا كيف نكون أعفّاء. وكان الفلاسفة الرواقيون (أتباع زينون) في أيام الرسول بولس يحاولون أن يضبطوا نفوسهم ليُظهروا قوة إرادتهم، لكنهم كانوا يقولون: "عندما نعجز عن فعل ما نريد، نريد فعل ما نقدر عليه". لقد بذل الرواقيون جهودهم الشخصية وقوة إرادتهم ليكونوا أعفّاء، ولكن لما كانت إرادتهم تعجز عن التحكم في شهواتهم، كانوا يتصالحون مع أنفسهم، ليتقبَّلوا ما يعجزون عن تحقيقه.
أما الإنجيل المقدس فيخبرنا أن الطبيعة الإنسانية فاسدة، وأن الإنسان ميت بالذنوب والخطايا، ولا يقدر أن يثمر ثمراً صالحاً إلا إذا خلَّصه المسيح، وقدَّسه الروح القدس وامتلكه، فيجعل منه إنساناً مثمراً، كما قال المسيح: "ليس أنتم اخترتموني، بل أنا اخترتكم وأقمتكم لتأتوا بثمر ويدوم ثمركم" (يوحنا 16:15). فنحن نأتي بالثمر المبارك نتيجة اختيار المسيح لنا، وإقامته إيانا من موت خطايانا. ويستطيع كل مؤمن أن يكون عفيفاً بفضل استجابته لفعّالية عمل الروح القدس فيه، فيسيطر على نفسه بقوة الروح القدس الذي يحكمه.
وقد جاءت كلمة "تعفف" في الإنجيل عن الرياضي الذي يضبط نفسه في كل شيء لينال الجائزة، فقيل: "من يجاهد يضبط نفسه في كل شيء" (1كورنثوس 25:9).
وتوضح لنا كلمة الله أن كل مؤمن يشبه عدّاءً يجري في سباق، عليه أن يحذر من أشياء كثيرة لا ينتبه لها الشخص العادي، فيتحذَّر من نوع الطعام الذي يتناوله ومن كميته حتى لا يزيد وزنه، ويعتني بأوقات راحته ليكون في كامل قوته، ويواظب على التدريب المتواصل الشاق ليكون في كامل لياقته. وباختصارٍ، إنه يضبط نفسه في كل شيء.
وكل مسيحي يجري في سباق روحي دائم، يسعى نحو الهدف، منتظراً نوال الجائزة السماوية. فيجب أن يضبط نفسه، وأن يحمل ثمر الروح: تعفف (1كورنثوس 24:9-27). وقال الرسول بطرس للمؤمنين: "وأنتم باذلون كل اجتهادٍ، قدّموا في إيمانكم فضيلةً، وفي الفضيلة معرفةً، وفي المعرفة تعففاً، وفي التعفف صبراً، وفي الصبر تقوى، وفي التقوى مودَّةً أخوية، وفي المودّة الأخوية محبة، لأن هذه إذا كانت فيكم وكثُرت تصيِّركم لا متكاسلين، ولا غير مثمرين، لمعرفة ربنا يسوع المسيح" (2بطرس 5:1-8).
وأمر الرسول بولس بضرورة انتصار المؤمن على شهوته، وهذا هو العفاف (1كورنثوس 9:7). وتحدث عن أنه يريد أن يخطب للمسيح عذراء عفيفة، هي جماعة المؤمنين، التي لم تتلوَّث إلى أن يأتي يوم اتحادها بالمسيح عريسها ومخلّصها (2كورنثوس 2:11).
هناك بعض التصرفات التي يجب أن نضبط نفوسنا فيها:
أولاً: التعفف في الكلام
نحتاج جميعاً إلى التعفف في كلامنا، بأن نضبط ألسنتنا. والإنسان العفيف في الكلام هو الذي لا ينطق إلا بما هو للبنيان، حسب الحاجة، كي يعطي نعمةً للسامعين (أفسس 29:4).
ويقول الرسول يعقوب في الأصحاح الثالث من رسالته إن الإنسان سيطر على الكثير من المخلوقات والوحوش واستأنسها واستخدمها، ولكنه عجز عن السيطرة على لسانه. ولا زال اللسان يدنّس الجسم كله، ويُضرِم دائرة الكون، ويُضرَم من جهنم. وواضحٌ أننا لا يمكن أن نسيطر على اللسان إلا إذا سيطر الروح القدس علينا، وعلى اللسان فينا!
وقال الرسول يعقوب إن اللسان صغير الحجم ولكنه كبير التأثير، وشبَّهه بثلاثة أشياء: باللجام الصغير الذي نضعه في فم حصانٍ كبير فيسهل علينا توجيهه إلى حيث نريد، وبالدفَّة الصغيرة التي تعدِّل اتجاه سفينة كبيرة، وبالنار القليلة التي تحرق وقوداً كثيراً. فاللسان عضوٌ صغير ولكنه عظيم التأثير: يقول كلمةً فيسبِّب كارثة، ويقول كلمة أخرى فيسبِّب بركة. "الموت والحياة في يد اللسان" (أمثال 21:18). باللسان الواحد نبارك الله الآب ونلعن الناس الذين خلقهم الله على صورته! فكيف يصدر العذب والمرّ عن اللسان الواحد؟ وكيف تصدر منه البركة واللعنة معاً؟ هذا شيء غريب لا نجده في عالم الطبيعة، فشجرة الفاكهة تثمر ذات الثمر دائماً، ولا يمكن أن نجتني منها يوماً فاكهة، ويوماً آخر شوكاً. ولا يمكن أن نستقي من ينبوعٍ واحد ماءً عذبا، ثم ماءً مُرّاً! ومع ذلك فإن الشخص الواحد ينطق مرة كلاماً عذباً وبعد دقائق يتكلم كلاماً مراً!
يناقش الرسول بطرس المسئوليات العائلية، فيحدّث الزوجات، ثم يحدث الأزواج، فيقول للرجال إن الخصام في البيت يعطل استجابة الصلاة، ثم يقول: "كونوا جميعاً متَّحدي الرأي بحسٍّ واحد، ذوي محبة أخوية، مشفقين لطفاء، غير مجازين عن شر بشر أو عن شتيمة بشتيمة، بل بالعكس مباركين، عالمين أنكم لهذا دُعيتم لكي ترثوا بركة، لأن من أراد أن يحب الحياة ويرى أياماً صالحة فليكفُف لسانه عن الشر وشفتيه أن تتكلما بالمكر. ليُعرِض عن الشر ويصنع الخير. ليطلب السلام ويجدّ في أثره. لأن عيني الرب على الأبرار، وأذنيه إلى طلبتهم، ولكن وجه الرب ضد فاعلي الشر" (1بطرس 7:3-12).
يريد الله أن يباركنا بنعمة اللسان العفيف، فنردّ على الشتيمة ببركة، فيحوِّل الله اللعنة إلى بركةٍ لنا. قال سليمان الحكيم: "من يحفظ فمه يحفظ نفسه. من يشحر (يفغر- يفتح واسعاً) شفتيه فله هلاك" (أمثال 13:3). وقال أيضاً: "من يحفظ فمه ولسانه يحفظ من الضيقات نفسه" (أمثال 23:21).
ما أعظم خسارة أصحاب الألسنة المنفلتة! وما أكبر الثمن الذي يدفعه الإنسان مقابل غلطة لسان! فلنسمع الوصية الرسولية: "ليكن كل إنسانٍ مسرعاً في الاستماع، مبطئاً في التكلُّم، مبطئاً في الغضب" (يعقوب 19:1). وقال الحكماء إن الله أعطانا أذنين ولساناً واحداً، لنسمع ضعف ما نتكلم. وقالوا إنه وضع الأذنين خارج الجسم، ووضع اللسان خلف بوَّابتين، هما بوَّابة الفكين وبوابة الشفتين، ليفكر الإنسان قبل أن يتكلم. لذلك قال المرنم: "قلتُ أتحفَّظ لسبيلي من الخطأ بلساني.. أحفظ لفمي كمامةً فيما الشرير مقابلي" (مزمور 1:39). وصلى المرنم: "لتكُن أقوال فمي وفكر قلبي مرضيَّةً أمامك يا ب، صخرتي ووليّي" (مزمور 14:19).
ثانياً: التعفف في الطعام
عندما يسيطر الروح القدس على حياتنا يجعلنا أعفَّاء في تناول الطعام، فبعض البشر يأكلون أكثر من كفايتهم، بينما غيرهم لا يجد ما يأكله. والذين يأكلون أكثر مما تحتاج أجسادهم ينفقون المال والجهد ، بعد ذلك، ليُنقِصوا أوزانهم. وما كان أغناهم عن الأمرين! أما الذي يسيطر الروح القدس عليه فإنه يأكل ليعيش، ويعتني بجسده لأنه هيكلٌ مقدس للرب مستعد لكل عمل صالح، ولكنه لا يعيش لمجرد أن يأكل ويُشبع احتياجات جسده. إن الحيوان يتوقف عن تناول طعامه متى امتلأت معدته، ويحتاج كثيرون من البشر أن يتعلموا هذا الدرس منه!
وأوصى إمام الحكماء سليمان بالتعفف وضبط النفس في تناول الطعام، فقال: "ضع سكيناً لحنجرتك إن كنتَ شرِهاً.. أَوَجدْتَ عسلاً؟ فكُل كفايتك، لئلا تتَّخم فتتقيَّأه" (أمثال 2:23 و16:25). كما طالب المسيح تلاميذه بالتعفف وحذَّرهم من الأمور التي تعطلهم عن الاستعداد لمجيئه ثانيةً، وهي محبة العالم، والترفُّه، واللذات الجسدية، وزيادة الاهتمام بأمور هذه الحياة، فقال: "احترِزوا لأنفسكم لئلا تَثْقُل قلوبُكم في خُمارٍ وسُكرٍ وهموم الحياة، فيصادفكم ذلك اليوم (يوم الحساب) بغتةً" (لوقا 34:21).
وأذكر مثلين عن التعفف في تناول الطعام:
1 - الرِّكابيون: وهو أبناء رِكاب، الذين عاهدوا والدهم أن لا يشربوا خمراً وأن يسكنوا في الخلاء، وثبتوا في عهدهم. وأمر الله إرميا النبي أن يمتحن إخلاصهم لوصية أبيهم بأن يستدعيهم ويُدخلهم إحدى غرف الهيكل، وأن يقدِّم لهم خمراً ليشربوا. ومع أن الأمر صدر لهم من نبيٍّ، وطلب منهم أن يشربوه في الهيكل، إلا أنهم رفضوا طلب النبي، بسبب عهدهم مع أبيهم. وقال الله للنبي إرميا إن بني رِكاب أكثر أمانةً لعهدهم مع أبيهم من أمانة بني إسرائيل لعهدهم مع الرب! (إرميا 25). لقد كانوا أعفّاء بالرغم من السلطان الذي كان من وراء الأمر لهم بشرب الخمر!
2 - دانيال: وكان مسبياً أسيراً في قصر الملك البابلي، وكان مجبراً أن يأكل طعاماً لا يستريح إليه ضميره، وأن يشرب شراباً ممنوعاً بحسب شريعة موسى. ولو أن دانيال أراد أن يأكل ويشرب لوجد لنفسه أعذاراً وجيهة ومقنعة. لكنه "وضع في قلبه أن لا يتنجَّس بأطايب الملك، ولا بخمر مشروبه" (دانيال 8:1). وأكرم الله دانيال كما أكرم هو الله. وما أحوجنا أن نثمر ثمر الروح: تعففاً، ونحن نمتنع عن الخطأ ونضبط نفوسنا.
ثالثاً: التعفف في المعاملات
يطالبنا الوحي المقدس أن نكون أعفّاء النفوس في كل معاملاتنا، فنضبطها وقت الغضب. قال سليمان الحكيم: "البطيء الغضب خير من الجبّار، ومالك روحه خيرٌ ممن يأخذ مدينة" (أمثال 32:16). فقد يغزو قائدٌ مدينة وينتصر على أعدائه، ويأخذ تلك المدينة. لكن ما لم ينتصر على نفسه وعلى غضبه وعلى طباعه السيئة، فإنه لا بد سيخسر ما قد كسبه.
وقال سليمان الحكيم أيضاً: "مدينة منهدمة بلا سور، الرجل الذي ليس له سلطان على روحه" (أمثال 28:25). فالذي لا سلطان له على روحه يشبه مدينة منهدمة، وبلا سور، معرَّضة للهجوم في أية لحظة، ولا بد ستسقط بغير مقاومة، لأنها بغير حماية.
وكل من يسيطر الروح القدس عليه يتعفف في الأمور الجنسية، عملاً بالوصية الرسولية: "ليكن الزواج مكرَّماً عند كل واحد، والمضجع غير نجس. أما العاهرون والزناة فسيدينهم الله" (عبرانيين 4:13). وهذا ممكن مهما كانت الظروف قاسية، فقد كان يوسف بن يعقوب عبداً في بيت فوطيفار رئيس الشرطة المصرية، وراودت زوجة فوطيفار يوسف عن نفسه، فقال لها: "هوذا سيدي لا يعرف معي ما في البيت، وكل ماله قد دفعه إلى يدي. ليس هو في هذا البيت أعظم مني، ولم يمسك عني شيئاً غيرك، لأنك امرأته. فكيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله؟" (تكوين 8:39 و9). كان يوسف عبداً أسيراً، ولو أنه أراد أن يخطئ لوجد الأسباب التي يتذرَّع بها أمام ضميره وأمام الآخرين. لكن عمل روح الله فيه كان برهان ربه الذي حفظه من الخطأ.
وقد سيطر الروح القدس على تصرفات الرسول بولس. وعندما وقف أمام الوالي فيلكس متَّهماً بتدنيس الهيكل اليهودي، دافع عن نفسه، وكلَّم الوالي عن البر، والتعفف، والدينونة العتيدة أن تكون، فارتعب فيلكس. كان السجين واقفاً أمام الحاكم مُقيّداً بالسلاسل، ولكن قيوده كانت من الخارج فقط، أما في داخله فقد كان حراً لأنه كان يعرف حق الله، فحرَّره الحقُّ الإلهي (يوحنا 32:8). وكان الوالي فيلكس يجلس على كرسي الحُكم، وإلى جواره زوجته اليهودية دروسلا، التي كان قد أغراها وأخذها من زوجها الشرعي. لكنه كان عبداً للشهوة والقسوة والرشوة. فارتعب الوالي من كلام السجين، ولم يرتعب السجين من سلطان الوالي. وأبقى الوالي السجين البريء في السجن لأنه أراد أن يأخذ منه رشوة، مع أنه يملك الكثير! فكان بولس العفيف الفقير في المال غنياً في الله، وكان الوالي الغني في المال فقيراً في داخله. وانتهى الأمر بهلاك فيلكس لأنه لم يضبط نفسه، ويبقى الرسول بولس في المجد الإلهي، لأنه أدرك أن ثمر الروح: تعفف (أعمال 24:24-26).
* * *
كل مؤمن صار إنساناً جديداً في المسيح يسكنه الروح القدس، لكن ليس كل مؤمنٍ مولودٍ من الله ممتلئاً من الروح. لذلك نختلف كمؤمنين في إنتاج ثمر الروح، فبعضنا ينتج ثلاثين، وبعضنا ستين، وبعضنا مائة. وقد ننتج يوماً مائة، ثم ينقص تكريسنا لله وتفتر محبتنا له، فيقلُّ ثمرنا الروحي. ولكن الآب السماوي يراقبنا دائماً، وينصحنا، ويذكّرنا بكلماته لنا، ويطالبنا أن نثمر ثمر الروح التساعي كله.
صلاة
بقوة روحك القدوس يا رب، ضع عواطفي تحت سلطان عقلي المستنير بكلمتك وبإرشاد روحك القدوس، فأنا بدونك عاجزٌ عن كبح جماح غضبي، والسيطرة على مشاعري. أعطني فكر المسيح، واضبط قلبي ولساني وجسدي لأعمل مشيئتك دائماً. آمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق