الثمرة السابعة
الإيمان
قال الرسول بولس: "الإيمان بالخبر، والخبر بكلمة الله" (رومية 17:10). وأبسط تعريف للإيمان أنه الثقة في كلام الله ومواعيده وتصديقها. فعندما نضع ثقتنا في إنسان ما، نصدِّق كلامه. وعندما نؤمن بالرب نصدق الخبر الذي تعلنه لنا كلمته. "الإيمان هو الثقة بما يُرجى والإيقان بأمور لا تُرى". بمعنى أنه الثقة بأن ما نرجوه لا بد سيتحقَّق، وهو الاقتناع بأن ما لا نراه هو موجودٌ حقاً (عبرانيين 1:11). وبدون إيمان لا يمكن إرضاء الله (عبرانيين 6:11).
والروح القدس هو الذي يقنعنا بصحَّة خبر الإنجيل عندما نسمعه فنصدّقه، وهو الذي يوجِّه قلوبنا إلى الحق، لأنه يرشدنا إلى جميع الحق، فنثمر ثمرة الإيمان بمعنى أن نضع ثقتنا في من يستحق الثقة. فإن أردنا تقوية إيماننا فلنتَّخذ إعلانات الله أساساً لثقتنا "لأن كل ما سبق فكُتب، كُتب لأجل تعليمنا، حتى بالصبر والتعزية بما في الكتب يكون لنا رجاء" (رومية 4:15).
وللإيمان ثلاثة معان:
1 - هو الثقة في قوة الله المخلِّصة،
2 - وهو الاعتماد على عناية الله المدبِّرة،
3 - وهو الأمانة في التصرُّف مع الله والناس.
أولاً: الإيمان هو الثقة في قوة الله المخلِّصة
مَن يؤكد لنا صِدق رسالةٍ يُقال لنا إنها من عند الله؟.. إنه الروح القدس. كان الرسول بولس قبل إيمانه بالمسيح يضطهد الكنيسة ويقاوم الإيمان المسيحي، وهو يعتقد أنه بذلك يقدِّم خدمةً لله. فما الذي غيَّر اعتقاده، حتى قال: "صادقةٌ هي الكلمة ومستحقَّة كل قبول: أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلِّص الخطاة الذين أوَّلهم أنا".. إنه عمل الروح القدس في قلبه وعقله، لأنه "لا يستطيع أحدٌ أن يقول يسوع رب، إلا بالروح القدس" (1كورنثوس 3:12).
وقد لخَّص الرسول بطرس الرسالة المسيحية في عظته الأولى يوم الخمسين، ثم ختم العظة بقوله: "فليعلم يقيناً جميعُ بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً" (أعمال 36:2). قال هذا في مكانٍ قريب جداً من جبل الجلجثة حيث صُلب المسيح، ولم تكن قد مضت على حادثة الصلب سوى خمسين يوماً. وقال بلغة اليقين إن الله جعل هذا المصلوب رباً ومسيحاً. "فلما سمعوا نُخسوا في قلوبهم وقالوا لبطرس ولسائر الرسل: "ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة؟" فقال لهم بطرس: "توبوا وليعتمِد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس" (أعمال 37:2 و38). فآمن في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف شخص بالمسيح المخلِّص. ولا شك أن الروح القدس هو الذي بكَّت الحاضرين وأقنعهم بصِدق الرسالة "فنُخسوا في قلوبهم" وآمنوا بالكلمة التي سمعوها.
سأل شابٌّ غني السيدَ المسيح: "أيها المعلم الصالح، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟" (مرقس 17:10). وهذا تكرارٌ لسؤالٍ وجَّهه اليهود للمسيح: "ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله؟". فأجابهم المسيح: "هذا هو عمل الله: أن تؤمنوا بالذي هو أرسله" (يوحنا 28:6 و29). فأول ما يجب أن نقوم به من عملٍ لله هو أن نؤمن بالمسيح الذي أرسله الآب إلينا، وأن نصدق أنه هو المخلِّص الوحيد.
رفع اللص التائب صلاةً على الصليب، وجَّهها للسيد المسيح، قال: "اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك" (لوقا 42:23). فكيف رأى هذا اللص ما لم يرَه رجال الدين اليهود؟ والإجابة: لقد أقنعه الروح القدس بصدق كل كلمة قالها المسيح عن نفسه، فرأى في الشخص المصلوب إلى جواره رباً، له ملكوت، وله سلطان أن يعطي هذا الملكوت. والروح القدس هو الذي يقنعنا بصحَّة كلمة حق الإنجيل، فنصدّقها عندما نسمعها وندرك أنها الحق من عند الله. فالإنجيل هو الخبر المفرح الذي جاء المسيح به إلى العالم، وبقبوله ننال الخلاص.
ويستخدم الروح القدس وسائل كثيرة لإقناعنا بصحة كلمة حق الإنجيل: في موعظة نسمعها، أو رسالة مكتوبة نقرأها، أو نموذج صالح جذاب نراه في حياة إنسان تقي. فالوسيلة هامة، لكن الفعّالية المجدِّدة والمقنعة هي فعالية الروح القدس الذي يجتذب النفوس لمعرفة المسيح.
ثانياً: الإيمان هو الاعتماد على عناية الله المدبِّرة
عندما نثق نعتمد. تثق أن وسيلة المواصلات ستوصِّلك إلى حيث تريد أن تذهب، فتستقلُّها، وتعتمد على السائق الذي يقود المركبة. أنت تؤمن فتتكل. والإيمان هو الأمان الذي نناله عندما نتكل على الله ونتمسَّك بمواعيده بكل قلوبنا. قال الله على فم النبي إشعياء: "إن لم تؤمنوا فلا تأمنوا" (إشعياء 9:7). فعندما نؤمن نطمئن ويعمِّر الأمان قلوبنا، لأنه "إذ قد تبرَّرنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح، الذي به أيضاً قد صار لنا الدخول بالإيمان إلى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون، ونفتخر على رجاء مجد الله" (رومية 1:5-3).
ويحذِّرنا الوحي من أنه "ليس سلام، قال إلهي، للأشرار" (إشعياء 21:57). والأشرار هم الذين يشكّون في كلام الله ولا يصدقونه. قالت الحيَّة لأمنا حواء: "أحقاً قال الله: لا تأكلا من كل شجر الجنة؟" (تكوين 1:3). فشكَّكها الشيطان في صحَّة أقوال الله. وصدَّق أبوانا الأولان أن في نصيحة الشيطان سعادةً أكبر وخيراً أوفر، فأكلا من الشجرة، وضاع سلامهما مع الله، وانتهى الأمر بهما خارج الجنة.
إن السلام قاصرٌ على النفوس المحتمية بكفارة المسيح، الخاضعة لتوجيهات الروح القدس، فهي وحدها التي تختبر إيمان إبراهيم خليل الله الذي وثق في وعد الله بأن يعطيه ابناً من سارة العاقر، وتقوَّى إبراهيم بالإيمان معطياً مجداً لله، وتيقَّن أن ما وعد الله به، هو قادرٌ أن يفعله (رومية 20:4 و21). ولم يكن إيمان إبراهيم راجعاً لأي سببٍ جسدي، بل تأسَّس كله على مواعيد الله. وبعد مرور خمس وعشرين سنة من الوعد الإلهي أعطى الله إبراهيم ابناً من سارة، سمّياه "إسحاق" بمعنى "ضحك". وكانت سارة وقتها في التسعين من عمرها، وكان إبراهيم شيخاً في المائة. وإسحاق هذا هو الابن الوحيد الذي وعد الله إبراهيم به. ومع ذلك فقد أخذه إبراهيم ليذبحه بيده، حباً في الله وطاعةً له. كان قلب إبراهيم عامراً بالسلام، فأقدم بغير تردُّد على هذه الخطوة الصعبة، إذ حسب أن الله قادرٌ على أن يقيم إسحاق من الموت بعد ذبحه (عبرانيين 19:11). وسأل إسحق أباه: "يا أبي، هوذا النار والحطب. ولكن أين الخروف للمحرقة؟". وكان هذا السؤال مثل سيفٍ يمزِّق قلب إبراهيم! ولكنه لم يقل لولده إنه هو المحرقة، واكتفى بالقول: "الله يرى له الخروف للمحرقة يا ابني" (تكوين 7:22 و8). وبالفعل دبَّر الله المحرقة التي حلَّت محل إسحاق، وافتُدي إسحاق بذبحٍ عظيم!
وعلى نفس المثال رتَّب الله ذبيحة المسيح العظيمة، والكافية لفداء كل البشر، وتنبَّأ عنها إشعياء النبي قبل حدوثها بسبعمئة سنة، فقال: "وهو مجروحٌ لأجل معاصينا، مسحوقٌ لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه وبحُبُره شُفينا" (إشعياء 5:53). وقد تبرَّر إبراهيم أمام الناس وظهرت طاعتُه بما عمله، عندما عزم على ذبح ابنه. كما تبرَّر أمام الله على أساس كفارة المسيح وفدائه العظيم، وفي هذا قال الرسول يعقوب: "ألم يتبرَّر إبراهيم أبونا بالأعمال إذ قدَّم إسحاق ابنه على المذبح؟ فنرى أن الإيمان سبق أعماله، وبالأعمال أُكمل الإيمان، وتمَّ الكتاب القائل: فآمن إبراهيم بالله فحُسب له براً، ودُعي خليل الله" (يعقوب 21:2-23).
وعندما يعمل الروح القدس فينا، وعندما نسلّم وجوهنا له، نعتمد على عناية الله المدبِّرة، فنطيع الله كما فعل إبراهيم، مهما كانت التضحية، فنتبرَّر بتبريرات المسيح الفدائية الكاملة.
أمضى الرسول بطرس ومعه صيادون آخرون ليلة كاملة في الصيد دون أن يمسكوا شيئاً. وفي الصباح أمر المسيح بطرس أن يبعد إلى العمق ويلقي الشبكة، فقال بطرس: "يا معلّم، قد تعبنا الليل كله ولم نأخذ شيئاً، ولكن على كلمتك ألقي الشبكة" (لوقا 5:5). فكادت شباكهم تتخرَّق من كثرة السمك بعد ليلٍ طويل مجدب. فما أعظم الإيمان الذي أعطى الأمان! فالأمن الحقيقي هو نتيجة طبيعية لوضع ثقتنا في ربنا.
فلنتمسَّك بمواعيد الله، ولنتشجَّع ونطالب الرب ليحقق وعوده لنا، لأنه القادر أن يفعل فوق كل شيء أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر (أفسس 20:3). ولنرفع صلاة شكرٍ لله على تحقيق وعوده لنا، حتى قبل أن تتحقق، كما صلى داود: "أيها الرب، ليثبُت إلى الأبد الكلامُ الذي تكلَّمتَ به عن عبدك وعن بيته، وافعل كما نطقتَ" (1أخبار 23:17).
وقد تمسَّك الرسول بولس بوعود الله له، وقال لرفاقه في السفينة الغارقة: "وقف بي هذه الليلة ملاك الإله الذي أنا له والذي أعبده قائلاً: لا تخف يا بولس. ينبغي لك أن تقف أمام قيصر، وهوذا قد وهبك الله جميع المسافرين معك. لذلك سُرُّوا أيها الرجال، لأني أومن بالله أنه يكون هكذا كما قيل لي" (أعمال 23:27 و24). وكلما وضعنا ثقتنا في مواعيد الله نعتمد أكثر على عنايته المدبِّرة، ونطيع الوصية: "لا تهتمّوا بشيء (بمعنى: لا تقلقوا)، بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر، لتُعلَم طلباتكم لدى الله" (فيلبي 6:4). "ويتَّكل عليك العارفون اسمك، لأنك لم تترك طالبيك يا رب" (مزمور 10:109).
ثالثاً: الإيمان هو الأمانة في التصرُّف مع الله والناس
كم نحتاج لفعّالية الروح القدس لينشئ فينا الإيمان الذي يجعلنا أمناء فيما نفعل، فنتمم نصيحة المسيح: "كن أميناً إلى الموت فسأعطيك إكليل الحياة" (رؤيا 10:2).
وتقدّم لنا التوراة مثلاً كتابياً عن أمانة العمال عندما أراد الملك يهوآش أن يرمِّم الهيكل، فأحضر صندوقاً مثقوباً في أعلاه، ووضعه بجوار المذبح ليضع الشعبُ فيه تبرعاتهم. وعندما كان الصندوق يمتلئ كان رجال الملك يحسبون الفضة، ثم يدفعونها لعاملي الشغل ليرمموا بها بيت الرب. "ولم يحاسبوا الرجال الذين سلَّموهم الفضة بأيديهم لكي يعطوها لعاملي الشغل، لأنهم كانوا يعملون بأمانة" (2ملوك 14:12 و15). وبسبب الأمانة لم تكن هناك حاجة إلى محاسب ولا إلى أمين صندوق.
وتكرر الأمر نفسه في أيام الملك يوشيا، ففي السنة الثامنة عشرة من مُلكه جمعوا الفضة التي سيرممون بها بيت الرب "وأعطوها للنجارين والبنائين والنحاتين لشراء أخشاب وحجارة منحوتة لأجل ترميم البيت، إلا أنهم لم يُحاسَبوا بالفضة المدفوعة لأيديهم، لأنهم إنما عملوا بأمانة" (2ملوك 3:22-7). وأغلب الظن أن هؤلاء العمال قدَّموا خدمتهم لله ولبيته مجاناً، دون أن يتقاضوا أجراً. كان حبهم للرب حباً غامراً، وكانت أمانتهم عظيمة، فلم يحاسبهم أحد.
وكلما سلَّمنا أنفسنا للروح القدس زاد ثمر الإيمان فينا، فنصدِّق الله أكثر، ونجد الاطمئنان والأمن عنده بكمية أوفر، ونكون أكثر أمانةً في كل عمل نقوم به لمجد اسمه.
صلاة
أشكرك يا رب على نعمة الإيمان التي هي ثمر الروح القدس، فإيماني عطية منك ومن عمل روحك القدوس فيَّ. حبِّبني في كلمتك، لأن إيماني يتقوى كلما عرفت مواعيدك وتمسَّكتُ بها. هبني سلام الاعتماد على أقوالك الصادقة والأمينة، لأكون أميناً إلى الموت فتعطيني إكليل الحياة. آمين.