اليقظه الروحيه
الإنسان الذي يعيش في
الخطية، بعيدا عن الله، يشبه الكتاب المقدس بإنسان نائم، لا يدرى بنفسه ولا بحالته،
كيف هو! فهو محتاج أن يستيقظ. لذلك يقول الرسول (إنها الآن ساعة لنستيقظ من
النوم..) (رو11: 13)
أي أنه كفانا نوما. كفى
الوقت الذى قضيناه متغافلين عن روحياتنا وخلاص أنفسنا، ويجب الآن أن نستيقظ، الآن
بلا تأجيل ولا تأخير وهكذا يتابع الرسول كلامه فيقول: (إنها الآن ساعة لنستيقظ من
النوم، فإن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا. قد تناهى الليل وتقارب النهار.
فلنخلع أعمال الظلمة، ونلبس أسلحة النور).
والكنيسة أيضا تستخدم
معنا نفس التعبير..
ففى نصف الليل، تضع لنا
تسبحة، تقول في اولها (قوموا يا بنى النور لنسبح رب القوات لأنه أنعم علينا بخلاص
نفوسنا) قوموا، استيقظوا جسديا وروحيا، لكى نسبح.. ولذلك نقول بعد ذلك للرب فى نفس
التسبحة (عندما نقف أمامك جسديا، انزع من عقولنا نوم الغفلة أعطنا يارب يقظة، لكى
نفهم كيف نقف أمامك وقت الصلاة.. ونفوز بغفران خطايانا).
نعم، انه نوم الغفلة،
الذي نريد ان نستيقظ منه..
بل أن القديس بولس لا
يعتبره نوما فقط، بل ما هو اكثر من هذا إنه موت، لأن الخطية هى موت والخطاه (أموات
بالخطايا) (اف5: 2).. لذلك يقول الرسول (استيقظ أيها النائم، وقم من الأموات، فيضئ
لك المسيح). (اف14: 5). قم، أنتبه لنفسك. ارجع إلى الصحو، لتدرى ما أنت فيه. أستيقظ
وأترك أعمال الظلمة، فيضئ لك المسيح وتنتقل من الموت إلى الحياة (لو 17:
15)
الشخص الخاطىء كإنسان
مخدر، لا يدرى ما هو فيه..
أحساسه الروحى معطل،
فهو لا يحس ما هو فيه، ولا ماذا يفعل، ولا خطورة وجسامة ما يفعله. على رأى المثل
(سارقاه السكين). هو في غفلة، خارج نفسه. ولذلك حسنا قيل عن الإبن الضال، لما
استيقظ روحيا، إنه (رجع إلى نفسه) (لو 15: 17).
الإنسان في الخطية، في
دوامة، ينسى فيها روحه، وينسى الله، وينسى القيم والمثل، إنه في غفوة، لا يشعر بكل
هذا. وربما يظن نفسه في ملء اليقظة، ويملأ الدنيا نشاطا وحركة! بينما الملائكة تصرخ
ما بال هذا الإنسان نائما؟ وإلى متى يستمر في نومه؟ إنه يحتاج إلى من يوقظه، يوقظ
ضميره وروحه. يقيمه من بين الأموات، ليضئ له المسيح..
حقا إن الشيطان، حينما
يريد أن يوقع شخصا، يخدر ضميره أولا، أو يقوده بطريقه ما إلى حالة الغفوة والغفلة
هذه، التي تعطل الحس الروحى، فلا يدرك ما هو فيه. هنا وأريد أن أقدم لك صورة، لحالة
الخاطئ في غفلته..
تصوروا كرة تتدحرج من
فوق جبل عال..
كرة القيت من فوق جبل
عال فأخذت تتدحرج تباعا، في إندفاع مستمر من فوق إلى أسفل وهى لا تملك ذاتها لتقف
وتقول أين أنا؟ إنما هى تتدحرج وتتدحرج، بلا فكر، بلا وعى بلاحس، بلا ارادة.. قوة
الدفع تجذبها باستمرار إلى أسفل، خطوة تسلمها إلى خطوة ودحرجة تسلمها الى تسلمها
الى دحرجة، بلا هوادة. وهى لا تعرف إلى أين يقودها كل هذا.. ولا تشاء أن تقف، أولا
تستطيع أن تقف.. ولكن إلى متى..
إلى أن يصدمها حجر كبير
في إنحدارها. يعترض طريقها ويوقفها، ويقول لها الى أين أنت ذاهبة؟ إلى أين
تتدحرجين؟ أفيقى إلى نفسك. إسيقظى. هذا الإنحدار المتتابع يقودك إلى الضياع..!
فتقف. وقد تنظر، فتجد أنها هبطت كثيرا عن مستواها السابق.. هكذا الخاطىء، يحتاج إلى
أن يستيقظ. وإن لم يستطيع، لابد من أن يوقظه غيره. اسمعوا ماذا يقول المزمور (أنا
أضجعت ونمت ثم استيقظت لأن الرب معى. لابد من اليقظة، ومن معونة الله
فيها.
وسعيد هو الإنسان، الذي
لا يطول به النوم..
وكما يقول المرتل في
المزمور (أنا أستيقظ مبكرا) (مز 57) كل إنسان معرض للغفوة في حياته الروحية. فترات
قد تمر على الكل، مع اختلاف في النوعية والمستوى. أما الروحيون فإنهم يتنبهون
بسرعة؛ ويفيقون لأنفسهم، ويرجعون إلى طقسهم الأول..
وهنا نود أن نسأل: ما
هي الأسباب التي تؤدي إلى الغفوة أو الغفلة الروحية؟ وما هي الدوافع التي تدفع إلى
اليقظة؟
2- أسباب الغفوة
الروحية
لاشك أن هناك أسبابا..
يلزمنا أن ندرسها، لكى نحترس منها. فما هى؟
منها أسباب خارجية،
تتعلق بالمحاربات والعثرات، والبيئة المحيطة والظروف.
ومنها أسباب داخلية،
تتعلق بطبيعة الإنسان ذاته، ونوعية قلبه وفكره وبعض هذه الأسباب يزحف إلى الإنسان
بطيئا بطيئا بطريقة لا تكاد تحس.
بينما البعض قد يهجم في
عنف، ويحتوى القلب بسرعة، فينسى كل شىء إلاه..
ولنتناول كل ذلك بشىء
من التأمل ونفحصه.
ولعلنا نذكر في مقدمة
هذه الأسباب: المشغوليات.
3-
المشغوليات
المشغوليات طريقة ما
كرة من طرق العدو في تحطيم الحياة الروحية. وأهم ما في مكرها أنها:
لا تحارب الروحيات،
إنما لا تعطيها مجالا، فننساها..!
ومثال ذلك، قد تجد نوعا
من الناس مشغولا باستمرار. لا يجد وقتا يجلس فيه إلى الله، للصلاة، للقراءة،
للتأمل، للتسبيح، أو لاى عمل روحى. كما لا يجد وقتا يجلس فيه إلى نفسه، ليفحص
حالته، أين هو، وكيف هو، وبالتالي لا يجد وقتا لتغيير حالته، فهو لا يدرى ما حالته!
إن الإبن الضال كانت بداية رجوعه، أنه جلس إلى نفسه وفحص الوضع الذي هو فيه، فقال
(كم من أجير عند أبى يفضل عنه الخبز، وأنا هنا أهلك جوعا). ولما عرف سوء حالته بهذا
الشكل، أستطاع أن يجد الحل، وهو (أقوم وأذهب إلى أبى) (لو 18: 17: 15).
من حكمة الشيطان، انه
لا يترك لك وقتا لروحياتك.
إن الشيطان حكيم في
الشر، ويدبر خططه بتعقل. وقد قيل عن الحية إنها كانت (أحيل جميع حيوانات البرية)
(تك1: 3) فما هى الحيلة التي يستخدمها هنا؟ بالنسبة إلى بعض الناس، قد يكون الأغراء
الواضح بالخطية سلاحا مكشوفا لا تقبله ضمائرهم المتيقظة، إذن لا مانع من أرجائه
حاليا، ريثما يتم تخدير هذه الضمائر. وما العمل إذن يرى الشيطان أن الناس إذا خلوا
إلى أنفسهم، فمن الجائز أن يفكروا في روحياتهم، أو ينصتوا إلى صوت الله يدعوهم
إليه، أو أن يرجعوا إلى ضمائرهم فتقودهم إلى الله
إذن لابد من مشغولية،
ولو كانت صالحة في ذاتها!
مثال ذلك: تلميذ مجتهد،
مشغول في دراسته وفى مذاكرته طول الوقت، لا يبقى له وقت لشئ آخر. فإن تخرج، تشغله
الوظيفة والعمل الإضافي والدراسات العليا، ثم بعد ذلك ينشغل في تكوين بيت، وفي
الزواج، ومشغولية الأسرة والأولاد، بحيث لا يجد وقتا للعمل الروحى.. وأنت في كل ذلك
تعاتبه، كيف لا يقتطع وقتا لله؟ وهو يجيب: وماذا عن تفوقى؟ وعن اخلاصى لدراستى
وعملى وأسرتي؟ وهل الاخلاص للعمل والتفانى فيه يعتبر خطية من الناحية الروحية؟
والإجابة كلا طبعا، إنما الخطا في الآتي:
1- المشغوليات تستوعبك
تماما، وتأخذ كل وقتك وكل فكرك
2- لا توازن في توزيع
وقتك، فلا وقت لروحياتك
3- المشغوليات تتلاحق
وتتابع، بحيث يبدو أنها لا تنتهى
إذن يجب أن تكون عادلا
في توزيع وقتك: كما أنك مطالب بالإخلاص لعملك ولأسرتك، كذلك عليك أن تكون مخلصا
لحياتك الروحية ولعلاقتك بالله، ولابد أن تخصص لذلك وقتا مهما كان الأمر
عجيبة هى المشغوليات في
عصر التكنولوجيا الذي نعيش فيه، كل طاقات الإنسان تتحرك بسرعة عجيبة، كما تتحرك
الآلة في هذا العصر الآلي. الكل يجرى، وراء ترفيهاته، وراء حياته الأسرية وحياته
الخاصة. الكل في دوامة عجيبة، لا تعرف السكون ولا الهدوء ولا تجد راحة، ولا وقتا
للروحيات.
حتى إن تفرغ الناس من
العمل، هناك الترفيهات والمسليات تشغلهم.
إن وجد الإنسان فراغا
من الوقت في منزله، تلاحقه المشغوليات من الزيارات، والجيران، والأحاديث، وفض
المشاكل العائلية، والمناقشات الكثيرة فيما يستحق، يضاف إلى هذا الراديو
والتليفزيون، والجرائد والمجلات، وبحث موضوعات التموين والسياسة، وما لا ينتهي من
أحاديث..
وان وجد الشخص فراغا من
الوقت خارج البيت، فهناك المقهى والنادى والجمعية، ولقاء الأصدقاء، وهناك السهرات
والحفلات والرياضة، والسينما والمسرح، والمتنزهات والفسح..
وفى كل ذلك تنسى الحياة
الروحية وينسى الله أيضا.
ربما لا يأتي الله على
فكرك وقتذاك. فمن أين يأتي؟ وإن تذكرت الله وواجباتك الروحية، تقول (حينما أنتهى
مما أنا فيه، سأجد وقتا حتما لعملي الروحى). ولكنك ما أن تنتهى مما أنت فيه، حتى
تلاقيك مشغولية أخرى، فتنشغل بها، وتلفك الدوامة، وتسحبك بعيدا عن الله.. وإذا
بالكرة ما تزال تتدحرج، في إنحدار مستمر، لا تتوقف، ولا تملك ذلك..
4- شيطان
المشغولية
وإن أردت أن تجلس مع
نفسك وسط كل ذلك:
قد لا يمنعك الشيطان،
بل يقول لك: (وأنا أيضا سأجلس معك، حتى إن وقفت سأقف معك أساعدك). وهكذا يذكرك
بعشرات الموضوعات التي يسرح فيها عقلك، وتعاود التفكير فيها وتجد أنك لا تصلى، ولا
تجلس مع الله أثناء جلوسك مع نفسك. فما زلت في مشغولياتك! ولماذا؟
لأن المشغوليات استقرت
في عقلك الباطن، وتعمل فيه.
لم تعد فقط مشغولا من
الناحية العملية، ومن جهة الوقت، وانما من جهة الفكر أيضا. كل ما يشغلك دخل إلى
عقلك، وإستقر فيه، واحتل بؤرة اهتمامك. وإن حاولت، في فترات متقطعة أن تخلو إلى
ذاتك، تخرج من عقلك الباطن صور وأخبار وموضوعات تشتت ذهنك، وتجذبك إليها، فما أسرع
أن تنجذب، وتظل الكرة تتدحرج.. حتى في وحدتك وخلوتك، يمكن أن يربكك الشيطان، ويسرح
بك في ميادين متنوعة لكى يشتت تفكيرك، ويدخلك في طياشة الفكر.
عالم مشغول، وسيظل
مشغولا، إلى أن تأتى الأبدية.
الكل يدور في دوامته.
والشيطان يجهز لكل إنسان الدوامة التي تناسبه، والتى يتحرك فيها بلا توقف، ويظل
يتحرك، إلى أن يأتي الموت، فيسحبه منها، على الرغم من إرادته والعجيب أنه ربما يوجد
أشخاص في ساعات الموت، يكونون مشغولين بأمور أخرى بعيدة عن خلاص أنفسهم! ويخيل إلى
أنه حينما تأتى الساعة الأخيرة، ساعة الأبدية ويأتي السيد المسيح في مجيئه الثانى
ويبوق الملائكة بالبوق، يكون الناس لا يزالون منهمكين فى مشغولياتهم متعلقين بها،
لا يحاولون الفكاك منها، ولا يريدون..! عجيب أن يظل الناس في مشغولياتهم حتى أتاهم
الموت يجدهم مشغولين لا يخرجون من دواماتهم!!
كل منهم، يحب داومته
التي يحركها، أو التي تحركه! عالم مشغول. متى تراه سيفرغ من هذه المشغولية، ويعطى
ولو جزاءا من وقته لله؟ متى؟ يحصل على فتره هدوء أو سكون يقضيها في التأمل، لأجل
راحته النفسية وراحته الروحية؟
5- وقت الله
والمشغولية
متى نخرج من
المشغوليات، ونعطى وقتا لله؟!
متى يستريح اللسان من
الكلام؟ ومتى تستريح القدمان من الجرى، واليدان من الشغل ويتفرغ الإنسان إلى الله،
ويهدأ ويجد وقتا لروحه..؟ متى يعتبر الوقت الذي يقضيه مع الرب ربحا له، ومتعة
لنفسه، وليس اقتطاعا من أمور العالم التي يحبها. إن الله إنقاذا للناس من
مشغولياتهم، قال لهم: إننى أريد أن أريحكم. ولكنكم لا تريدون أن تريحوا أنفسكم،
لأنكم دائما في مشغولية. ماذا أفعل إذن من أجلكم؟
أعطيكم يوما في
الأسبوع، تتحررون فيه من مشغولياتكم.
يكون يوما مقدسا لى
(عملا من الأعمال لا تعملون فيه) (لا 30: 23) إنه يوم لأرواحكم. حتى إن غفوتم طوال
الأسبوع، تستيقظون فيه. ولكن هل استجاب الناس لبركة يوم الرب؟! إنهم ما زالوا
مشغولين في يوم الرب أيضا. الأعمال الخاصة التي لم يستطيعوا أن ينجزوها في أيام
العمل الرسمى، يعملونها في يوم الرب. وإن إستطاعوا أن يتفرغوا، يقضون هذا اليوم في
ملاهيهم ومتعهم. وبدلا من يسموه اليوم المقدس holiday
يسمونه week-
end
أي نهاية الأسبوع وقد تكون مشغولياته وعثراته أكثر من أيام الأسبوع. وتستمر الكرة
تتدحرج فيه، ولا يكون مجال للروح!
الله يريد أن يقضى وقتا
معنا، ونحن لا نريد!
كٍانسان خطب فتاه.
وكلما يزورها لكى يقضى معها وقتا، من فرط محبته لها، يجدها مشغولة في ترتيب أمور
البيت، في الكنس والمسح، وغسل الملابس وكيها، وأمور الطهى والتنظيف ويحاول جاهدا أن
يقنع خطيبته بأن تجد وقتا تجلس معه، ولا فائدة، أنها مشغولة باستمرار! هل تظنون مثل
هذه الخطيبة تستحق عريسها الذي يحبها؟ أليس من الحكمة أن تغير أسلوبها؟ ماذا يفعل
هذا الخطيب، إن كان في كل مرة يأتي إلى خطيبته، يجدها مشغولة عنه لا تلتفت إليه..
عجيب أن الله يريدنا، ونحن لا نريده، عجيب أن ننشغل عن أخلص حبيب. يكلمنا، ونحن لا
نجيب. يدعونا إليه، فلا نستجيب عجيب هذا حقا عجيب..
شاب يسأل: أنا مشغول في
دورسى، فهل أترك الخدمة؟!.. كيف تترك الخدمة يا إبنى أليس هناك يوم في الأسبوع هو
يوم الرب، تخدم فيه؟ أنت لا تملك هذا اليوم، حتى تشغله بالدورس أو غيرها. إنه ملك
للرب. سمح الله أن كل دول الإدارات والمصالح والمؤسسات، تمنح العاملين فيها يوم
عطلة في الأسبوع. إنه يوم الرب. لا يجوز أن ننشغل فيه بغير الرب. وإلا كانت هذه
المشغولية تحمل أعترافا ضمنيا، بأن الله ليست له أهمية في قلبك وفى تقييمك
لمشغولياتك!
وعجيب أننا ننشغل عن
الرب، ونلوم المنشغلين به!
مثال مرثا أخت مريم،
إنشغلت عن السيد المسيح بأعمال البيت وأمور الضيافة. ولم تكتف بهذا إنما بكل تأثر
وجهت لومها إلى مريم، لأنها جلست عند قدمى الرب تستمع إليه! وكأنها تقول عن أختها.
لماذا تجلس في هدوء؟ لا تنشغل مثلى ومعى؟ هل جلوسها مع الرب أهم من عملها معى. لذلك
وبخها السيد المسيح على مشغوليتها هذه، وقال لها: أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور
كثيرة، والحاجة إلى واحد (لو10: 40، 41).
وأصبحت مرثا مثالا
للمشغولية التي تعطل عن الجلوس مع الرب ومثال هذا أيضا الذين تجرفهم أمور العالم،
حتى ما يجدون وقتا للصلاة. فإن وجدوا راهبا متوحدا قد تفرغ للجلوس مع الرب، في صلاه
وتأمل، يصيحون قائلين: فلينزل ليخدم معنا! ويتهمون الرهبان بحياة الكسل، وعدم
الأهتمام بالكنيسة، وعدم المبالاة بخلاص الأنفس المحتاجة!! إنهم لا يجدون وقتا
للصلاة، ويلومون الذين يصلون. ويصيحون فيهم كما صاح فرعون في الشعب الذي أراد أن
يخرج ليعبد الله (متكاسلون أنتم متكاسلون، لذلك تقولون نذهب ونذبح للرب) (خر 17:
5)
المشغولية عن الرب
زحفت، حتى دخلت مجال الخدمة أيضا!
فترى مثلا خادما كبيرا،
مسئولا عن فرع هام من فروع الخدمة، ومع ذلك لا يجد وقتا للصلاة والتأمل والجلوس مع
الله. فتلومه على ذلك. ولكنه يصيح: العلك لا تعرف مدى المسئولية الملقاه على، ومدى
المشغولية التي أنا فيها: أمامى كراسات التحضير، وفصول أعداد الخدام والمكتبة،
والنادى، والصور، ووسائل الإيضاح، وتنظيم الأنشطة المتعددة والإفتقاد، واجتماع
الشبان، ومشكلة المتكلمين.. من أين أجد وقتا للصلاة؟! اعذرنى
وبهذا تجف روح الخادم،
بينما يظن أنه في عمق الخدمة!
وتصبح الخدمة لونا من
النشاط، خالية من الروح، كل تنظيماتها تدخل في حدود الأوامر والنواهى. وتصبح
الكلمات التي تلقى عن الصلاة والتأمل والعمل الروحى، مجرد كلمات من الكتب، بلا خبرة
روحية، وبلا ممارسة، وبدون تذوق لله نفسه. وقد ينطوى تحت هذا المثال أيضا كثير من
العاملين بنشاط كبير في المجال الدينى! حتى أن الله يبحث عمن بقى له إن كان الكل،
داخل بيته وخارجه، منشغلين عنه؟!
هنا وأتذكر بعض أبيات
شعرية، قلتها في هذا المجال:
دخلت البيت لا مرثا
بساحته ولا مريم
فمن للرب في البيت وكيف
إذا أتى يخدم؟
ومن يهفو لمقدمه ومن
يجرى ومن يبسم؟
ومن يرنو لطلعته ومن
يصغى ومن يفهم؟
ومن بكلامه يشدو طوال
الليل أو يحلم؟
إنها حقا مأساة، أن
العالم كله منشغل عن الله..
حتى بعض الذين كرسوا
أنفسهم له!.. بالكاد يجاهد الناس لكى يحصلوا على وقت يقضونه معه! وأي وقت؟! وقت
تتنازعه أفكار العالم واهتماماته.
لذلك جميلة جدا هى صلاة
نصف الليل، التي يصليها الآباء الرهبان في الأديرة، لو أمكن أن يصليها أحباء الله
فى المدينة.. يرفع الإنسان يديه إلى السماء، ويقول للرب: هوذا الكل نائم، والجو
ساكن، يمكننى يارب أن أنفرد بك، في هدوء هذا الليل، وبدون عائق من أحد، قبل أن يصحو
الناس، وتعود الضوضاء إلى المدينة، ويعود الصياح والضجيج. أنا هنا أخلو بك، وأفتح
لك قلبى.. كما قال المزمور (فى الليالى إرفعوا أيديكم أيها القديسون، وباركوا الرب)
حسن أن يفعل أحد هكذا، ولكن في الواقع نادرا ما نجد.. تسأل زميلا لك (هل تصلى صلاة
باكر؟) فيقول لك: ما أن استيقظ حتى أستعد بسرعة للذهاب إلى العمل، قبل زحمة
المواصلات..! وتسأله عن صلاة النوم، فيقول لك أرجع إلي بيتى متأخرا، متعب الجسد جدا
ألقى بجسمى على فراشى لأنام!
6- الله
ووقتك
والله؟ هل هو في آخر
القائمة بالنسبة إلى أهتماماتك؟
لاشك أن الموضوع يحتاج
إلى تنظيم الوقت، وتوفير الوقت.
حاول أن تصحو مبكرا بعض
الشئ، ولو نصف ساعة، لكى تبدأ اليوم بالصلاة وقراءة الكتاب ولا مانع من أن تنام
مبكرا أيضا. وتحتاج أيضا أن توفر وقتا من المشغوليات التي يمكن الاستغناء عنها أو
عن بعضها خلال النهار.. يمكن تقليل بعض الوقت الذي تعطيه للجرائد والمجلات والإذاعة
مع ما تغرسه فيك كل هذه من أفكار، أو ما يتبعها من أحاديث.. يمكن أن تختصر بعض
اللقاءات والزيارات، وتلغى المقابلات والجلسات غير البناءة. وتعيد النظر في الوقت
الذي تعطيه للترفيهات والمسليات. ولا شك أنك ستستطيع أن تجد وقتا لروحياتك.
المهم أن تقتنع بأهمية
العمل الروحى. وحينئذ ستجد وقتا.
انزع نفسك من الكلام
الكثير مع الناس، لكى تتكلم ولو قليلا مع الله.. الذى ينتظرك. إن أية مشكلة طارئة
مفاجئة تقابلك، لابد ستفرغ لها وقتا للتصرف فيها، مع أنك ما كنت تعمل لها حسابا،
وما كانت تخطر على بالك، ذلك لشعورك بأهمية الأمر. كذلك إن شعرت بأهمية خلاص نفسك،
وأهمية علاقتك بالله لابد ستنظم وقتك، لكى تحتفظ بالتوازن بين عملك في العالم وعمل
الروح. وهذا التوازن لازم جدا، حتى لا يطغى العالم على رو حياتك.
نظم وقتك ومشغولياتك،
حتى لا تسحبك الدوامة بعيدا..
ولا تعتذر بالمشغوليات،
فإن داود النبى، على الرغم من كل مشغولياته كملك وقائد وقاض كان يقول (سبع مرات فى
النهار سبحتك على أحكام عدلك). وكان يقضى الليل مع الله (مز118). لم يعتذر داود
بالمشغوليات، بل على الرغم من كثرتها، أستطاع أن يجد وقتا طويلا ودسما للمزمار
وللقيثار وللتسبيح والترتيل.. ويشوع بن نون خليفة موسى، على الرغم من مسئولياته
الكاملة عن الشعب بأسره، قال له الله (لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك، بل تلهج
النهار والليل) (يش 8: 1).
فهل أنت في مثل مشغولية
داود الملك ويشوع القائد اللذين وجدوا وقتا لله..؟!
تحدثنا عن المشغوليات
التي تسحب الناس بعيدا عن الله، فهل يوجد غيرها مثلها؟ نعم توجد: العاطفة
المسيطرة.
7- العاطفة
المسيطرة
إن كانت المشغوليات
تملك الوقت، ولا تعطى فرصة لله..
فالعاطفة تملك القلب
والفكر أيضا، بعيدا عن الله..
الشيطان لا يكشف أوراقه
على الدوام، فهو لا يمنع الإنسان صراحة من الوجود مع الله إنما قد يقدم له عاطفة ما
تشغل كل قلبه وفكره وأحساسيه ومشاعره، وتخدره تماما، وتستحوذ على كل اهتماماته،
ومعها لا يكون لله مجالا في داخله. ومع هذه العاطفة تظل الكرة تتدحرج وتتدحرج، وهى
لا تدرى ما هى فيه، أو إلى أين هى سالكة.. تماما كما معنا طفل، نخشى أن يعطلنا
بصراخه وضجيجه وكلامه، فنقدم له لعبة يلهو بها فينشغل بها عنا ويهدأ.. كذلك يقدم
الشيطان مثل هذه العاطفة كلعبة يلهو بها القلب بعيدا عن العمل الروحى.. ويبحث الله
عنك فلا يجدك، ويناديك فلا تسمعه، لأنك مشغول أو مخدر بهذه العاطفة التي تسربت إلى
قلبك.
أنها محبة معينة، من أى
نوع كانت..
لا يشترط أن تكون محبة
من النوع الذي بين فتى وفتاه، أو تعلق قلب بقلب، إنما هى عاطفة من أى نوع، والمهم
أنها تملك المشاعر كلها وتوجهها في مسارها. مثل هواية معينة تسيطر على الإنسان،
وتملك كل وقته واهتمامه.. هواية كالكرة، أو العوم، أو التجديف أو السباق، أو
كالرسم، أو الكتابة، أو التمثيل، أو أى فن من الفنون.. أو محبة للعبة من اللعب، أو
تسلية من التسليات، أو قراءة خاصة في الفلسفة أو علم النفس مثلا أو قد تكون هذه
المحبة محبة الإنسان لعمله، تحولت إلى هواية تملك كل وقته وكل فكره لا يتحدث مع
أحد، حتى في بيته، إلا عن هذا العمل وأخباره وتفاصيله ومدى نجاحه أو المشاكل التي
تعترضه.. هو عنده كل شئ.. أو قد تكون محبة للشهرة أو للظهور أو للعظمة، تجعله حتى
في وقت فراغه يسبح في أحلام اليقظة، أو يؤلف حول نفسه قصصا خيالية يعيش فيها،
ويترجم رغباته إلى حكايات وتصورات..
أو قد تكون هذه العاطفة
التي تشغله هى ثورة لتغيير الأوضاع، أو ما يسميه برغبة في الإصلاح حسب مفهومه الخاص
طبعا، تجعله ينتقد كل شئ، ويغضب، ويدين، ويقترح أقتراحات جديدة، ويتصور أوضاعا
جديدة للجو الذي يريد أن يصلحه، ويقضى الوقت إقناعا لغيره بوجهة نظره. أو قد تكون
هذه المحبة إنتماء لجمعية إن هيئة معينة، أو فكر ما المهم أن تيارا جارفا يكتسح
قلبه ويوجهه في حماس وفى نار داخلية تتقد، وتظل الكرة تتدحرج في عنف، وهو يعلم
بذلك، بل ويسر به، لان محبة هذه الدحرجة قد دخلت قلبه وملكت عليه.
ويبحث الله عن مكان في
قلبه، فلا يجد..
قلبه مشغول، على
الدوام، بهذه العاطفة التي استولت عليه، والتى يصحو ويبيت مفكرا فيها والتى التهمت
كل محبة أخرى، تجدها في طريقها، حتى محبة الله.. إنها كالعثاء (العته) التي تلتهم
الملابس، أو كالسوس الذي يأكل الحبوب، أو كسرطان الدم الذي يأكل الكرات الحمراء..
تظل تلتهم كل شئ، حتى تبقى وحدها. ويشعر هذا الإنسان أن هذه العاطفة هى الوحيدة
التي تشبعه! وتسأل عن مركز الله في قلبه، أو مركز الروح أو الأبدية، فلا تجد إلا
هذه الحقيقة المرة:
لقد طردنا صاحب البيت،
وأسكنا فى مكانه الغرباء..!
الله، الذي هو المالك
الحقيقى لقلبك، أصبح لا يجد له مكانا فيه. إنشغل القلب تماما بعاطفة غريبة، خدرت كل
عواطفه الروحية، فنامت وغرقت في النوم.. والعجيب أنه ليس من السهل أن توقظ مثل هذا
الإنسان، لأنه سعيد بنومه. اليقظة قد تتعبه، لأنها تحرمه من (محبته)!! لذلك ما أجمل
حياة الرهبان القديسين، الذين قطعوا من قلوبهم كل محبة أخرى غير الله، وجعلوا
شعارهم:
الإنحلال من الكل،
لٍلارتباط بالواحد (الذى هو الله).
هؤلاء أحبوا الله أكثر
من كل محبة أخرى مهما كانت بريئة، أحبوه أكثر من الأب والأم والأهل والأقارب، بل
حتى أكثر من أنفسهم، حسب الوصية الإلهية (مت 10: 27 – 39) وكأن كل واحد منهم يقول
لله: لا أريد محبة أخرى تشغلنى عن التفرغ لك. فليس لى سواك. أنت الذي تشغل فكرى
وقلبى، وتشغل حياتى ووقتى وتشغل حواسى وعواطفى. أنت شغلى الشاغل. قلبى ملآن بك
وفرحان بك، ولا يعوزه أحد غيرك. لا يوجد فيه فراغ يتسع لأحد غيرك. هذه مشاعر
القديسين سكان البرارى ولكن الكل ليسوا هكذا دوامة العالم تجذبهم، وتلفهم داخلها.
حتى إن جلسوا مع الله، لا يكون ذلك بكل قلوبهم، لأن عواطف أخرى كثيرة تنافس الله في
القلب.. ولكن هل العواطف والمشغوليات هى الوحيدة التي تخدر الإنسان، وتجذبه بعيدا
عن الله؟ كلا، فهناك أيضا البيئة.
8- البيئة
المنحرفة
طبعا، ليست كل بيئة
تبعد الإنسان عن الله، فهناك بيئات مقدسة لها تأثير روحى إيجابى. ولكننا هنا نتكلم
عن البيئات غير الروحية، التي لم تذق في حياتها ما أطيب الرب! البيئات المعطلة.
مسكين الإنسان الذي
كلما يسير فى طريق الله، أو كلما يستيقظ لنفسه، تحاول البيئة بكل جهدها أن ترجعه،
فينام مثلها، يحيا نفس حياتها البعيدة عن الله.. ناسيا قول الكتاب (لا تشاكلوا هذا
الدهر) (رو12: 2) أى لا تكونوا مثله، على شبهه وشكله.
البيئة المنحرفة تتهم
المتدين بالتطرف. وتعتبر جهاده تزمنا، وروحياته شذوذا..!
هى تريده مثلها، يحيا
كالمجتمع الذي يعيش فيه، بنفس الأخطاء، لا يشذ عن الباقين إن كثر تردده على
الكنيسة، يقولون له: كفى تطرفا، التفت إلى دروسك أو إلى عملك.. وإن صام، يقولون له
ستضيع صحتك، وتفقد نضارتك. أنظر كيف ذبلت! لو سرت هكذا ستصاب بالأنيميا والسل! إن
عامل الناس بإتضاع ووداعة، يتهمونه بضعف الشخصية. وان رفض لهوهم وعبثهم ومزاحهم
الردئ وترفيهاتهم الخاطئة، يصفونه بالرجعية! وإن سلكت الفتاة في حشمة يقولون لها:
منظرك اصبح كفلاحة! من يرضى أن يتزوجك وأنت هكذا؟! إنك رجعية لا تجارين العصر، قد
عقدك التدين! كلا، إن الإنسان المتدين ليس رجعيا، إنما هو يقبل من العصر ما يناسب
مبادئه ومثالياته، ويترك ما يبعده عن الله. والمدنية ليس معناها التخلى عن القيم
الروحية. وليس التمسك بالمثاليات لونا من الرجعية.
إنما هذا الإتهام هو
نوع من الإثارة، يقصد بها الناقدون أن يسمعه الضعيف فيتزعزع.
إن الشخص القوى لا
تجرفه البيئة المنحرفة، بل يصمد ويقاومها.
أما الضعيف، فربما
يساير الجو. إن سمكة صغيرة يمكنها أن تقاوم التيار لأن فيها حياة. بينما جذع شجرة
ضخم يجرفه التيار على الرغم من ضخامته، لأنه ليس حيا. فكونوا أحياء وقاموا البيئة
إذا انحرفت، ولا تستسلموا لكل جديد إن كان ضد روحياتكم ومثالياتكم.
حقا ما أخطر البيئة على
الإنسان الضعيف. كلما تشتعل فيه محبة الله، ترجع البيئة فتطفئها. كما تضعفه القدوة
السيئة.
وهكذا يتصرف كالباقين،
يلهو معهم ويعبث، ويشترك في أحاديثهم الخاطئة، ويلبس
شخصيتهم.
وكما يقول المثل (أرضهم
ما دمت في أرضهم، ودارهم ما دامت في دارهم) أو على الأقل إن استطاع أن يقاوم، لا
يضمن الاستمرار في المقاومة.. وبمرور الوقت يفقد حرارته الروحية ويحيا في فتور
دائم، يتحول بالتدرج إلى غفوة روحية. لأنه لا يوجد صوت يبكته على الخطية والفتور،
بل على العكس يوجد من يبكته على العمل الروحى! كشاب كلما يحاول أن يستيقظ إلى نفسه،
يمر عليه صديق يضيع كل ما عنده من روحيات، وينتقل بأحاديثه وبدعوته الملحة إلى جو
آخر، ثم يخرجه معه من منزله، ويقوده إلي ما كان يحاول الإبتعاد عنه منذ حين.
(والشر الذي ليس يريده،
إياه يفعل) (رو 7: 19) وعلى رأى الشاعر
*متى يبلغ البنان يوما
تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟!
يضاف إلى الإغراء،
والضغط المعنوى، والجذب المستمر، محاولات الإقناع.
الفكر أيضا يعمل، عملا
مضادا للروح. البيئة تحاول أن تقنع هذا المتدين بخطأ مسلكه، بوسائل متعددة من
التشيك، وبسرد قصص وأخبار لا تنتهى. وربما تلجا إلى تفسير خاطئ لآيات الكتاب، كما
حاول الشيطان في التجربة على الجبل. ولا أريد هنا أن أسرد أمثلة من التشكيك وهى
كثيرة..
مثل هذا الإنسان، يجب
أن يهرب من تأثير البيئة.
يهرب منها فكريا، بأن
يعرف الرد على شكوكهم، بالإتصال بشخصيات روحية قوية، تعطيه ردا على كل فكر خاطئ،
وكل مبدأ غير سليم، وكل تفسير منحرف لآيات الكتاب ويهرب من تأثيرهم بكافة الطرق،
حتى بالنسبة للأسرة، كأن ينشغل في عمله خارج البيت، مع باقى أنشطته، أو أن ينشغل في
البيت في مذاكرات إن كان طالبا ويجب أن يخفى ممارسته الروحية. عنهم على قدر الإمكان
كما قيل في سفر النشيد (اختى العروس جنة مغلقة، عين مقفلة، ينبوع مختوم) (نش 4: 12)
وأيضا لا يكشف أمانيه الروحية ويحيا في البيئة كأنه ليس منها. ويشترك أحيانا مهم
فيما لا يتعب، ويعتذر عن الباقى لباقة وحكمة، أو في هروب. كما ينبغى أن يكون قوى
الشخصية..
أما الذين يستسلمون
لتأثيرات البيئة الخاطئة، فإنها تتلفهم.
تقتل فيهم كل رغبة
روحية، وتفقدهم روح اليقظة. وان استيقظوا يعذبون أنفسهم يوما بيوم، كما كان لوط في
ارض لوط في أرض سادوم.. لما كلمهم عن خلاص نفوسهم (كان كمازح وسط أصهاره) (تك 19:
14).
ما أعمق قول الكتاب إن
(المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة) (1 كو 15: 33). لابد إذن أن يغير بيئته،
أو يهرب من تأثيرها. أو إن يكون قويا بالدرجة التي يستطيع هو فيها أن يؤثر في
البيئة. ولكننا لا نتكلم هنا عن الأقوياء، إننا نتكلم عن الذين يحتاجون إلى يقظة
روحية، الذين جذبتهم الدوامة، وجعلت الكرة تتدحرج إلى أسفل. يجب أن يهرب هؤلاء
لأنفسهم..
كمثال نصيحة طبيب
لمريض..
يقول الطبيب للمريض:
يجب أن تغير أسلوبك في حياتك: لا تأكل كذا وكذا من الأطعمة، فإنها ضارة بصحتك. تخلص
من السمنة مثلا. لا تجلس كثيرا بل أمشى فان المشى مفيد لك. لا تجلس في مكان غير
متجدد الهواء.. إلخ. ويجب على المريض أن يمتنع عما يمنعه عنه الطبيب.. ليشفى..
اصحوا إذن لأنفسكم.
تخلصوا من مشغولياتكم وعواطفكم وبيئاتكم.
تخلصوا من كل ما يخدر
ضمائركم، كما تتخلصون من المشغوليات والعواطف المسيطرة، وأيضا من تأثير العقل
المنحرف، الذي تقوده رغبات خاطئة أو أفكار غير سليمة..
9- العقل وضياع
الإنسان
أحيانا يكون العقل سببا
في ضياع الإنسان روحيا، إذا ما أساء استعماله لتحقيق شهواته.
فكثيرا ما يكون العقل،
جهازا تنفيذيا لرغبات النفس!
فإذا انحرفت النفس، ما
أسهل أن تجذب العقل خلفها، كخادم مطيع لها يبرر لها سلوكها الخاطئ. تشتهى النفس
شهوة منحرفة، أو تود أن تستريح بعيدا عن تعب الجهاد الروحى وهنا تجد العقل يضع ذاته
في خدمة هذه النفس، يقدم لها ما تشاءه من التبريرات أدلة وبراهين بل وآيات من
الكتاب، ومقتبسات من أقوال الآباء. حتى تستريح النفس إلى ما هى فيه، وحتى لا يثور
الضمير على خطا يجب أن تبعد عنه!
مثل هذا العقل ليس أداة
في يد الروح القدس.
قد يكون العقل أداة في
قبضة العالم أو الشيطان. وقد يكون واقعا تحت تأثير الآخرين، أو تحت نير الشهوة، أو
قد يدفعه الفهم الخاطئ، أو المجاملة، أو المنفعة المادية.
مثال ذلك عقل إيزابل في
خدمة آخاب، لما أراد هذا أن يستولى على حقل نابوت اليزرعيلى (1مل 21) أو العقل الذي
دفع التلميذين إلى طلب نار من السماء لحرق إحدى مدن السامرة (لو 9: 54) أو عقل بطرس
الذى دفعه إلى قطع اذن العبد، بدافع من الغيرة المقدسة! ولعل من أوضح الأمثلة لهذا
أيضا، عقل صاحب الوزنة الواحدة الذي برر دفنه لوزنته بدليل منطقى (مت 25: 24) العقل
دفع آدم في خوفه إلى الإختباء من الله. ولكن الروح لا تفعل هكذا..
العقل قد يقود إلى
الخطاء، ويقدم لذلك اعذارا.
ربما يحاول الضمير أن
يوقظ الإنسان، فإذا بالعقل ينميه، ويقدم له عذرا عن كل خطأ: هذا الأمر ما كنت أقصده
مطلقا، أتى عفوا، والنية غير متوفرة فيه. وهذه الخطية حدثت على الرغم منى. الضغطات
الخارجية كانت شديدة جدا لا يستطيع أحد الفكاك منها، ويمكن أن تدخل هذه ضمن الأعمال
غير الإرادية. وهذا الخطأ تبرره الظروف، وذاك تشفع فيه الغاية الحميدة والقصد
السليم. وذاك الموضوع طبيعى جدا، يحدث لكل أحد، لماذا ندع الضمير يوبخنا عليه؟ ولا
شك أن التدقيق الزائد في الحكم على أمثال هذا الأمر غير جائز، إنه يقودنا إلى
الوسوسة ويفقدنا بساطتنا!! وهكذا إلى ما لا ينتهى من التبريرات. ما أسهل أن ينحرف
العقل، وينحاز إلى ذاته، ويشحذ كل طاقته لمنح سلام زائف للنفس. والفضيلة التي تقصر
فيها، ما أبسط أن يقول إنها فوق إمكانياتى، أو الظروف لم تساعد عليها..
إنه العقل الذي يشارك
النفس فى إنحرافاتها، ويساعدها.
إنه مجرد جهاز يستخدمه
الإنسان. وقد يكون جهازا للخير أو للشر، حسبما يوجهه صاحبه. وقد يكون العقل مشحونا
بأفكار تقدمها البيئة أو التقاليد، أو بأفكار استقاها من الكتب أو من الأصدقاء. فلا
نضمن كل ما فيه من الفكر. وبهذا يكون العقل سببا لضلالة الإنسان، إن كان يساعده على
الخطيئة، أو يبررها له، أو يخدره بما يقدمه من أعذار وخيال العقل الخصيب قد يساعد
على سقوط النفس..
تشتهى النفس شهوة،
فيتناولها العقل، ويقدم لها قصصا لا تنتهى تدور حول صور لتحقيق هذه الشهوة.. مئات
من القصص تطول وتستمر. وما أن تنتهى صورة منها، حتى يقدم صورة أخرى، في خصوبة
عجيبة.. والنفس نائمة، تسرح فيما يقدمه العقل من حكايات تشبع شهواتها. أن يستيقظ
الإنسان أخيرا، فيجد أن العقل قد سرح به في مجالات لا تنتهى. وقد يشتهى أن يعود
فيغفو، ليسرح به العقل مرة أخرى، ومرات..
وما أعجب سرحات العقل
التي يقدمها في أحلام اليقظة!
فى خطية المجد الباطل
مثلا، ما أسهل أن يؤلف العقل روايات طويلة، عن أمجاد يصل إليها الإنسان ويرفعه بها
إلى أعلى مستوى، فوق الخيال، إلى أمور من المستحيل في الواقع أن تتحقق. ولكن العقل
يقدمها في سرحاته العجيبة، ليشبع رغبة النفس في العظمة وتظل النفس مخدرة مع العقل،
سارحة في خياله، إلى أن يوقظها طارق أو طارى فتستيقظ وتسأل أين أنا؟ وقد تستمر
دغدغة هذه الأحلام معها ساعات أو أيام أو سنوات. وقد يقضى الإنسان عمره كله يحلم
ويفكر ويسعد بأوهامه
ليست مشكلته انه لا
يستطيع أن يستيقظ من أحلامه.. بل مشكلته انه لا يريد أن يستيقظ!!
إنه سعيد بأفكاره، سعيد
بأحلامه وأوهامه، سعيد باشباع العقل لشهواته! وما أكثر مواهب العقل في التأليف
والتخطيط ورواية القصص والحكايات! وإن أرادت الروح أن تتدخل لاقناع الإنسان
بأخطائه، يحاول أن يرد بمجادلات عقلية..! إنها مشكلة العقلانيين.. تحدثنا الآن عما
يخدر الإنسان من مشغوليات، وعواطف، ومن إنحرافات البيئة والعقل فماذا أيضا؟ هناك
اللذة..
10- اللذة والسيطرة على
الحواس
مشغوليات الإنسان تسيطر
على وقته، فلا يعطيه لله، والعواطف تسيطر على قلبه، فلا يعطيه لله والبيئة قد تسيطر
على إرادته، والعقل يسيطر على تفكيره. أما اللذة فإنها تسيطر على حواسه ثم تخدره
كله، فلا عقله يفكر، ولا البيئة تستطيع أن تمنعه، كما أن هذه اللذة تصبح هى كل
مشغوليته، وكل مجال عاطفته. إنها تملكه كله..
ولا يوجد اصعب من
اللذة، تخدر الإنسان بالتمام، ولو لوقت!
إنها تستولى على إداركه
كله، أو تفقده إدراكه كله، فينسى كل شئ، ولا يدرى بنفسه إلا منقادا وراء هذه اللذة،
التي تلفه في طياتها ولكل إنسان لذته الخاصة. أما الإنسان الروحى فلذته في الله
وحده.. سليمان الحكيم عاش في ملاذ العالم زمنا، ومهما أشتهته عيناه لم يمنعه عنهما.
واخيرا بعد أن أتعبته اللذة فترة طويلة، استيقظ إلى نفسه.
وكاتب سفر الجامعة وقال
(الكل باطل، وقبض الريح، ولا منفعة تحت الشمس).
والابيقوريون كانت
اللذة هدفهم، فأنكروا الله والروح والقيامة.
والمشكلة فيمن تخدره
اللذة، أنه لا يحب أن يستيقظ.
تريد أن توقظه منها،
فيهرب منك، أو يقول لك (اتركنى الآن. لم يحن الوقت بعد) إنه مسرور بالغفوة التي هو
فيها. يقول لك: اتركنى في نومى. فإن أحلام هذا النوم، أشهى من حرمان الواقع! إنه
يريد أن يظل في هذا النوم على الرغم من ظلمته، لأنه يحب الظلمة أكثر من النور..
أمثال هؤلاء يرون أن
اليقظة الروحية يقظة مريرة، تتعبهم وتحرمهم من لذاتهم. لذلك هم يهربون باستمرار من
الله، ومن خدام الله، ومن كنيسته، ومن مذبحه..
ومع ذلك فلابد للنائم
أن يستيقظ. فكيف ذلك؟
هذا ما سوف نتحدث عنه إن شاء الله.