مدرسة الأرغفة ومدرسة العاصفة
في إنجيل مرقس والاصحاح السادس ترد معجزتين:
المعجزة الأولى هي اشباع الخمسة آلاف رجل ما عدا النساء والأطفال بخمس خبزات وسمكتين.
والمعجزة الثانية بعدها مباشرة، وهي المشي على الماء اثناء هيجان البحر الشديد والرياح المضادة.
ولكن في المعجزة الثانية ترد كلمة في ع٥٢ تقول «لأنهم لم يفهموا باﻷرغفة»؛ وكأنه يريد أن يربط المعجزتين معًا.
تعالوا بنا نتأمل في كل منهما على حدة، لنتعلم منهما دروسًا عظيمة لحياتنا العملية.
المعجزة اﻷولى: جموع غفيرة وبطون خاوية وموارد محدودة جدًا تكاد تكون شبه معدومة، لذا تقدَّم التلاميذ بطلب إلى الرب قائلين «الموضع خلاء والوقت فد مضى؛ اصرفهم لكي يمضوا إلى الضياع والقرى حوالينا ويبتاعوا لهم خبزًا؛ لأن ليس عندهم ما يأكلون». وهنا نرى التلاميذ يعرضون المشكلة على الرب، وقبل تقديم الحل المقترح من جانبهم قدَّموا ثلاثة أسباب منطقية جدًا لقبول هذا الحل، وهذه الأسباب هي:
السبب الأول متعلق بالمكان «الموضع خلاء»،
السبب الثاني متعلق بالزمان «الوقت قد مضى»،
وقبل أن يقدِّموا السبب الثالث قدَّموا الحل المقترح قائلين «اصرفهم لكي يمضوا إلى الضياع والقرى حوالينا ويبتاعوا لهم خبزا». ثم يقدّمون السبب الثالث وهو «لأن ليس لهم ما يأكلون».
وهنا نرى الرب يفاجئهم بتكليف صادم لحلولهم المقترحة، عندما قال لهم «أعطوهم انتم ليأكلوا». فكان ردّهم في هيئة سؤال استفساري في ظاهِرِه، واستنكاري في باطنه، قائلين «أنمضي إلى القرى ونبتاع خبزًا بمائتي دينار ونعطيهم ليأكلوا؟» وعندما وصلوا إلى هذه النقطة، كان الحل المدهش من قِبَلِ الرب في صورة سؤال، ليس استفساريًا له (حاشا)، ولكنه استكشافيا لهم، لتطمين قلوبهم، قائلاً لهم: كم رغيفًا عندكم؟ لكنه أعقب هذا السؤال بأمر إداري قائلاً لهم: اذهبوا وانظروا.
ولما علموا قالوا: خمسة وسمكتين. ولكن ما هذا لمثل هؤلاء؟ (يوحنا٦: ٩).
وهنا كان أمر الرب الصارم الصادم قائلاً: اتكئوهم على العشب الأخضر رفاقًا رفاقًا، مئة مئة، وخمسين خمسين. وقد كان.
فاخذ الأرغفة والسمك، ورفع نظره نحو السماء، وبارك وكسَّر وأعطى التلاميذ ليقدِّموا للجموع. فأكل الجميع وشبعوا وفضل عنهم.
هذه مدرسة الأرغفة، وقد قصد الرب فيها أن يعلِّمهم أن يرفعوا عيونهم عن المشكلة، وعن الأسباب المنطقية، والحلول التقليدية، ويوجِّهوا نظرهم إلى السماء.
ولكن بكل أسف، لم يفهموا بالأرغفة؛ لأن قلوبهم كانت غليظة. لذلك كان لا بد من تكليف أشدّ؛ إذ الزمهم بالذهاب إلى الشاطئ المقابل ليسبقوه إلى بيت صيدا. وهنا تبدأ أحداث قصة المعجزة الثانية؛ إذ هاج عليهم البحر، وكانت الريح ضدهم. ورآهم معذَّبين في الجذف وهو على البر وحده. ولكن في الهزيع الرابع (قرب آخر الليل)، أتاهم ماشيًا على البحر. لكنه أراد أن يتجاوزهم، وما أصعبها كلمة. ولكنهم ظنّوه خيالاً؛ فخافوا وصرخوا واضطربوا. ولكنه بقلبه المحب ومشاعره الرقيقة قال لهم «تشجعوا أنا هو لا تخافوا».
وهنا أراد الرب في هذه المعجزة أن يشتغل على الأشخاص وليس على المشكلة؛ لكي تنفتح أبصارهم وتنجلي بصيرتهم، ويعرفوه هو، وليس يعرفوا عنه. وهنا لا بد أن نضع المعجزتبن في إطار المقارنة. ولنعطِ لكلٍّ منهما اسمًا مستعارًا، مقتبسين الاسم الأول من العبارة التي قالها الروح القدس على فم مرقس وهو يدون لنا المعجزة الثانية إذ قال «لأنهم لم يفهموا بالأرغفة (مشيرًا إلى المعجزة الأولى) لأن قلوبهم كانت غليظة». والاسم الثاني من أحداث قصة المعجزة الثانية.
المعجزة الأولى سنسميها “مدرسة الأرغفة”.
والمعجزة الثانية سنسميها “مدرسة العاصفة”.
ولكلِّ مدرسة منهجها وتلاميذها.
المدرسة اﻷولى للأطفال؛ لإشباع بطونهم وتسديد احتياجاتهم.
والمدرسة الثانية للأبطال؛ لإنارة أذهانهم وتدريب قلوبهم.
في المعجزة الأولى، بعد أن أكلوا وشبعوا، لم يقولوا شيئًا عن الرب، ولم يقدِّموا له السجود.
أما في المعجزة الثانية؛ قدَّموا له السجود، واعترفوا قائلين «بالحقيقة أنت ابن الله» (متى١٤: ٣٣).
ففي مدرسة الأرغفة قلَّما نعرفه أو نقدِّم له السجود،
أما في مدرسة العاصفة فنعرفه كابن الله ونسجد له.
مدرسة الأرغفة لاختبار قدرته في حل المشكلة وذلك بإزالة أسبابها،
مدرسة العاصفة لاختبار سلطانه في البقاء على المشكلة مع حفظنا فيها.
أي في مدرسة الأرغفة يحفظنا من التجربة و“يعدينا منها”،
في مدرسة العاصفة يحفظنا في التجربة و“يعدينا فيها”.
ومن لا يتعلم باﻷرغفة تُحوَّل أوراقه تلقائيًا إلى مدرسة العاصفة. وهي مدرسة إلزامية لأنه يقول «وللوقت ألزم تلاميذه أن يدخلوا السفينة ويسبقوه إلى العبر إلى بيت صيدا» (مرقس٦: ٤٥).
وهكذا يدخل إلى أبعاد جديدة في معرفة ابن الله ويُقدِّم له السجود.
ففي بداية المشكلة كانوا خائفين، وفي نهايتها كانوا ساجدين.
في البداية ظنوه خيالاً يرعب، وفي النهاية عرفوه إله يعبد فاى إله تريد وأى من المدرستين تنتمى.