(كيف أخضع)
الخضوع هو موقف إرادي واتجاه روحي، أعنى أنه قبول إرادي واقتناع شخصي من منطلق إيمانـي بأن يكون الخضوع أسلوب حياة ممتدة على طول الطريق الروحي.
والترجمة العملية للخضوع التي تخرجه إلى حيز التنفيذ هي الطاعة. فالكتاب يقول عن خضوع أمنا سارة لزوجها إبراهيم "كانت سارة تطيع إبراهيم داعية إياه سيدها" (1بط6:3) وارتباط الطاعة بالخضوع واضح من قول معلمنا بولس الرسول "أطيعوا مرشديكم واخضعوا" (عب17:13)
والواقع أن الخضوع والطاعة أمران في منتهى السهولة على المؤمن إذا كان ما طُلب منه أمرا يتفق مع أفكاره واقتناعاتة، ولكن المشكلة الكبرى تنشأ عندما يُطلب منه أمر يتعارض مع أفكاره واقتناعاته!!
فماذا يفعل بازاء هذه المشكلة؟ هل يرفض الخضوع متمسكا بطاعة الله أكثر من الناس؟ نعم ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس. ولكن هل هو متأكد تماما أن هذه هي مشيئة الله؟ أم أنه مندفع وراء إقتناعاته الشخصية وآرائه الخاصة؟ وهل رفض الخضوع يكون الخطوة الأولى والأخيرة والحل الأوحد للمشكلة؟ أم يجب أن يسبقها خطوات حكيمة تعكس سمات المسيح، وترشد إلى معرفة مشيئة الله؟
إليك بعض الخطوات المقترحة:
أولا: تنقية الضمير:
إن التعامل مع السلطات ينبغي أن يكون من ضمير صالح بلا عثرة نحو الله والناس كما سبق شرحه (رو5:13)، (بط19:18)، (أع16:24) ولذلك ينبغي على المؤمن أن يفحص ضميره من جهة محبته لمن هو في السلطة، ومن جهة إنكاره لذاته، ومن جهة الأمانة في التعامل معه، ومن جهة طهارة ضميره، حتى يستطيع أن يرى مشيئة الله بوضوح بلا عائق أو شائبة في الضمير.
وإليك بعض الأسئلة التي تساعدك على فحص ضميرك من جهة نيتك الداخلية في الخضوع من عدمه:
1ـ المحبة:
أ - هل أنت تحب الشخص الذي في السلطة من قلب طاهر بشدة؟
ب- أم تحمل لـه بغضـة وضغينـة؟
ج- هل يوجد في قلبك شئ من المرارة نحوه؟
د- هل أدنته أو انـتقدته أو شهرت به؟
ه- هل مسكت سيرته وأبرزت عيوبه؟
و- هل تظن السوء في نواياه وتصرفاتـه؟
ز- هل احتملته حتى عندما أهانك؟
ع- هل قمت بأعمال محبة لـه تعكس ما في قلبك من حب نحوه؟
ط- هل تحبه فقط عندما تشعر أنه يحبك وعندما لا ترى محبته أو يلحقك منه ما لا يرضيك تقلب لـه ظهر المجن، ويهبط ترمومتر محبتك لـه؟
2ـ إنكار الذات:
أ- هل أنت متمركز حول ذاتك وتريد أن تظهرها وترى في وجود السلطة تحديداً لانطلاقك؟
ب- هل تميل إلى الانعزالية والاستقلالية والانفرادية؟
ج- هل لك تطلعات دفينه لأن تكون صاحب سلطة وسيادة؟
د- هل تفكر في أعماقك أنك مساو لمن في السلطة ولسان حالك يقول مع مريم وهرون "هل كلم الرب موسى وحده ألم يكلمنا نحن أيضا" (عدد12:2) ويقول مع قورح ودوثان وأبيرام "كفاكما. إن كل الجماعة بأسرها مقدسة وفي وسطها الرب. فما بالكما ترتفعان على جماعة الرب" (عدد1:16ـ3)؟
هـ- هل تتنافس معه وتريد أن تكون متقدماً عليه؟
و- هل تظن إنه غير جدير بالسلطة وأنك أحق منه بها وتتحين الفرص لتأخذ موضعه؟ وإذا تعذر ذلك تفكر في الانعزال لتحقيق أهدافك؟
ز- هل دافع عدم خضوعك هو انك تريد أن الجميع يسيرون بحسب رأيك؟ وأن من هو في السلطة لا يأخذ بوجهة نظرك؟
ع- هل أنت تعارض لأنك لا تريد أن تكون مهزوماً؟
ط- هل أنت مستعد أن تـتخلى عن رأيك ولو كنت مقتـنعاً أنه صواب، تاركا الأمر للرب، والقرار الأخير لصاحب السلطة؟
3- الأمانة:
أ- هل أنت أمين في علاقتك بمن هو في السلطة؟
ب- هل تقوم بكل واجباتك نحوه، وتوفي له كل حقوقه؟
ج- هل تتحدث معه بإخلاص وصدق؟
د- هل أنت غامض ومغلق معه، وتخفي عنه أموراً، ولا تظهر له إلا ما تري أنه يمكن أن يعرفه من آخرين، أما أسرارك فقد أغلقت عليها دونه؟
هـ- هل تقبل آراءه علي مضض؟ وأنت رافضها داخل قلبك؟ ولكن تظهر له أنك قابلها، ثم تخرج مصراً علي آرائك وتتصرف من منطلقها ضارباً عرض الحائط بآرائه؟
و- هل طلب منك أشياء وتصرفت بعدم أمانة معه بخصوصها؟
ز- هل سلبته حقاً من حقوقه المادية أو الأدبية؟
4- الطهارة:
قد يخيل إلينا أنه لا علاقة للطهارة بالخضوع. ولكن الواقع أن النجاسة وعدم الطهارة تطمس رؤى القلب، فقد قال الرب يسوع المسيح "طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (مت8:5)، وقال أيضاً معلمنا بولس الرسول "القداسة التي بدونها لن يري أحد الرب" (عب12:14) فعند ما يكون القلب طاهراً يستطيع الإنسان أن يدرك مشيئة الرب، وإن كان نجساً أصر الإنسان علي مشيئة نفسه لأنه لا يستطيع أن يري الرب أو يدرك مشيئتة. لذلك يلزم فحص النفس من جهة الطهارة.
وإليك بعض الأسئلة للفحص:
أ- هل هناك خطية تراعيها في داخل قلبك وتخفيها عن الآخرين؟
ب- هل لهذه الخطية تأثير علي تفكيرك وآرائك ومواقفك واتجاهاتك وقراراتك؟
ج- هل تفصل هذه الخطية بينك وبين إلهك وتحجب وجهه عنك فتؤثرعلى علاقتك بالرب وصلواتك وسلامك؟
د – هل أنت تضحي بكل شئ من أجل الحفاظ علي هذه الخطية؟
هـ- هل تخشى من السلطة أن تتدخل في حياتك بخصوص هذه الخطية؟
يقول سليمان الحكيم: "من أحب طهارة القلب فلنعمة شفتيه يكون الملك صديقة" (أم22:11). فإن فحص الضمير وتنقيته بكل إخلاص وجرأة من جهة المحبة وإنكار الذات والأمانة والطهارة، هو الخطوة الأولى التي ينبغي أن نتبعها في سبيل التعرف علي مشيئة الله من جهة الخضوع للسلطة من عدمه.
ثانياً تصحيح المواقف:
بعد اكتشاف مواطن الخطأ الداخلي نتيجة لتنقية الضمير، تبدأ عملية تصحيح المواقف الخاطئة التي ترتبت علي ذلك وأعثرت الآخرين وشوهت صورة المسيح التي كان يجب أن يراها فيك.
وهذه بعض التصرفات العملية لتصحيح المواقف:
1- اذهب واعترف بكل أخطائك بصراحة التي أخطأت بها في حق صاحب السلطة (بلا تبريرات أو التماس الأعذار) حتى لا يشار إليك بأصابع الاتهام أنك لم تعتذر عن خطأ نحوه.
2- اطلب منه أن يساعدك علي معرفة أخطائك التي يراها هو ولا تراها أنت حتى تستطيع أن تعتذر عنها وأن تصححها.
3- نفذ التعليمات التي كانت قد صدرت إليك ورفضت تنفيذها.
4- ارجع الحقوق المسلوبة سواء كانت مسلوبات مادية أو أدبية.
5- اظهر استعدادك للخضوع والطاعة والتنازل عن مشيئتك الخاصة.
هذه هي الخطوة الثانية التي يجب التصرف علي ضوئها حتى يستطيع صاحب السلطة أن يلمس من خلالها أمانتك وسلامة ضميرك.
وإذا أتممت هذه الخطوة ستساعدك علي معرفة مشيئة الله بعد ذلك من جهة الخضوع للسلطة من عدمه.
وبدون إتمام هذه الخطوة لا تستطيع أن تتقدم إلى الخطوات التالية لأنها تحتاج إلي شفافية من الطرفين، ولا يمكن أن توجد الشفافية إلا في جو من الثقة، ولن تتوفر الثقة ما لم يتم تصحيح المواقف. بعدها نخطو إلى الخطوة الثالثة:
ثالثاً: الانفتاح لفهم مقاصده:
إن عدم الخضوع ينشأ أحيانا من عدم فهم مقاصد من هو في السلطة، أو إساءة فهمه. لذلك يتحتم أن ينفتح الإنسان بأمانة وإخلاص ورغبة صادقة لفهم مقاصده ونواياه ودوافعه وأسلوب تفكيره. وهذه بعض الإرشادات التي تساعدك علي ذلك:
1- استفسر منه عن أهدافه ورغباته وخططه حتى تكون لنفسك اقتناعات قوية بها.
2- حاول أن تفهم طريقة تفكيره وأسلوب معالجتة للأمور.
3- حاول أن تتفهم الظروف المحيطة به والملابسات المختلفة.
4- حاول أن تتفهم الإمكانيات المتاحة لتتصرف في حدودها.
5- حاول أن تكون حساساً لمتطلباته.
6- لا تكن عبئاً عليه فدورك معه هو أن تعين لا أن تعوق.
7- حاول أن تتعرف علي مشيئة الله وهدفه من خلال ما يفكر فيه.
فإن الفهم الجيد لمن هو في السلطة يساعد علي معرفة مشيئة الله بخصوص الخضوع له، حتى لا يشتكى عليك ضميرك في ما بعد بأنك تصرفت في رعونة وتمرد دون أن تفهم جيداً مقاصده.
هذه هي الخطوة الثالثة التي تفسح الطريق للخطوة الرابعة.
رابعاً: شرح رؤيتك واقتناعاتك:
بعد أن تفهم جيداً أفكار وأهداف وخطط صاحب السلطة، تستطيع في هدوء واتضاع ومحبة وبروح التلميذ والعبد، أن تشرح اقتناعاتك ووجهات نظرك بدون انفعال أو تحدٍ ودون أن تنتقد أفكاره أو تقلل من شأنها.
1- اعرض أفكارك علي أنها وجهات نظر لا علي أنها قرارات واجبة التنفيذ.
2- اظهر استعدادك لأن تغير اقتناعاتك إن كانت خاطئة أو مبنية علي فهم خاطئ للكتاب.
3- لا تـتشبث برأيك لمجرد العناد والخوف من الهزيمة بل كن مخلصاً مع نفسك ومع الله.
4- لا تظهر امتعاضاً وضيقاً إذا لم يؤخذ بوجهة نظرك.
هذه هي الخطوة الرابعة، وقد لا تكون نتائجها طيبة بل قد تكتشف أن هناك هوة بين رأيه ورأيك، إذن فالأمر يحتاج إلي أن نـتقدم إلى الخطوة الخامسة:
خامساً: الأرضية المشتركة والبدائل المقبولة:
الإنسان الذي يسلك بحسب متطلبات الضمير الصالح الذي بلا عثرة، والذي يريد أن يعرف مشيئة الله بكل إخلاص، لا ينسف الجسور والكباري في التفاهم، ولا يسرع إلي نهاية الطريق حيث لا عودة، بل يحاول أن يبحث عن أرضية مشتركة وبدائل مقبولة.
إليك بعض الاقتراحات للبحث عن أرضية مشتركة:
1ـ عليك أن تبحث عن نقاط الاتفاق بين رأيك ورأى صاحب السلطة، وتؤكد له اقتناعاتك بها فإن هذا يساعد علي تقارب وجهات النظر.
2ـ وأن لا تتكلم بروح المجادلة والمناقشات الغبية التي تولد الخصومات.
3ـ وأن لا تتكلم بروح المعلم ظنا منك أنك تقود صاحب السلطة للرأي الصحيح.
4ـ ابحث عن بدائل للألفاظ والتعبيرات التي قد تضايقه.
5- ابحث عن بدائل للأساليب التي تحقق أهدافه ولا تتعارض مع اقتناعاتك مثلما فعل دانيال مع رئيس الخصيان، فقد رفض دانيال أن يأكل من أطايب الملك ولكنه حاول أن يفهم مقاصد رئيس الخصيان واقترح بديلاً لهذه الأطايب وهو البقول (القطاني) الذي يحقق نفس الهدف وهو الصحة الموفورة. (دانيال8:1-16).
6- اترك له القرار الأخير فهو من حق السلطة وحدها، وحاول أن تفهم إرادة الرب من خلال هذا القرار.
هذه هي الخطوة الخامسة وربما أيضاً تبوء بالفشل فماذا يكون التصرف؟
إن التصرف الحكيم هو أن تخطو إلى الخطوة السادسة.
سادساً: انتظار الرب:
ما أقوى تعبيرات أرميا النبي بخصوص هذه الخطوة لاكتشاف مشيئة الرب إذ يقول:
"جيد أن ينتظر الإنسان ويتوقع بسكوت خلاص الرب ... يجلس وحده ويسكت... يجعل في التراب فمه لعله يوجد رجاء. يشبع عاراً لأن السيد لا يرفض إلى الأبد فإنه لو أحزن يرحم حسب كثرة مراحمه. لأنه لا يذلّ من قلبه ولا يحزن بنى الإنسان. أن يدوس أحد تحت رجليه كل أسرى الأرض (ظلماً) أن يحرق حق الرجل (ظلماً) أمام وجه العلي. أن يغلب الإنسان في دعوى (ظلماً) (فهل) السيد لا يرى؟ من ذا الذي يقول فيكون والرب لم يأمر؟ من فم العلي ألا تخرج الشرور (المصائب) والخير؟ (مراثى26:3ـ38).
ماذا يريد أرميا النبي أن يوضح؟
إنه يريد أن يقول: على المؤمن أن ينتظر إعلان الرب عن مشيئته التي لابد أن تسري دون عائق يعوقها..
إذن أعطى فرصة للرب لإعلان مشيئته، وذلك بإتباع الخطوات التالية:
1- كن في روح الصلاة والتسليم للرب.
2- اصبر في سكوت وتوقع خلاص الرب.
3- توقع أن يغير الرب فكرك أنت، أو فكره هو، أو الظروف والملابسات.
4- توقع أن يكون رد الفعل لخضوعك مزيداً من الضغوط والقيود عليك، فاجعل فمك في التراب، وأعط خدك للضرب، وتأكد أن الله يستخدم كل ذلك لخيرك "ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده" (رو28:8).
5- لتكن ردود فعلك صحيحة حتى لا تكون سبب عثرة، وحتى يستخدمها الله في
تغـيير المواقف.
6- انتظر الرب ليتشدد وليتشجع قلبك وأنتظر الرب. (مز14:27) واحذر من قول
المرنم "أسرعوا فنسوا أعماله.ولم ينتظروا مشورته" (مز1:6ـ13)
هذه هي الخطوات الستة في حياة الخضوع حتى يكتشف المؤمن مشيئة الله من خلال ضمير شفاف لا يجد الرب فيه عائقاً لإعلان إرادته من خلاله،كما أن هذه الخطوات الستة تحمى المؤمن من اختلال موازين أحكامه بسبب سوء سلوكه وحماقته وانفعالاته وتهوره فلا يتعرف علي مشيئة الله من جهة خضوعه للسلطات من عدمه.
ولكن إذا ما انتهت هذه الخطوات كلها إلى لاشيء، وظلت السلطة مصرَّةً على مطالبها المضادة لوصايا الرب فنكون قد وصلنا إلى نهاية حدود الخضوع، الأمر الذي سنناقشه في الفصل التالي.
حدود الخضوع
هناك عدة أسئلة جوهرية تفرض نفسها على الضمير الروحي وهي:
1- إلى أي مدى يلزم الخضوع للسلطات؟
2- لو أصدرت السلطات أوامر ضد وصايا الرب هل تنفذها؟
ماذا عن الآية القائلة (ينبغي أن يطاع الله اكثر من الناس) (أع29:5)؟
هذه الأسئلة وغيرها تأتى بنا إلى مناقشة جانب جوهري من جوانب الخضوع وهو (حدود الخضوع) أي إلى أي حد يمكن للمؤمن أن يخضع للسلطة، ومتى يكون في حل من هذا الالتزام.
الحقيقة أن المؤمن مطالب بالخضوع للسلطات في كل شئ إذ يقول الكتاب المقدس للأبناء "أيها الأولاد أطيعوا والديكم في كل شئ ..."(كو20:3)
ويقول للنساء "كما تخضع الكنيسة للمسيح كذلك النساء لرجالهن في كل شئ" (أف24:5)
ويقول للعبيد "أيها العبيد أطيعوا في كل شئ سادتكم حسب الجسد" (كو22:3) ويقول للمواطنين بخصوص سلطة الدولة "فاخضعوا لكل ترتيب بشرى.." (1بط13:2)
وبالنسبة لسلطان الكنيسة قال "الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء" (مت18:18).
فالمؤمن مطالب بالخضوع في كل شئ على اعتبار أن هذه السلطات مقامة من الله كما قال معلمنا بولس الرسول "لأن ليس سلطان إلا من الله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله" (رو1:13).
ولكن إذا ما أصدرت السلطات أمراً ضد وصايا الرب كأن يأمر أب ابنـه بالسرقة، أو ابنتـه بالزنا، أو أن يأمر الملك المؤمنين بالسجود للأصنام أو التبخير للأوثان ففي هذه الحالة ينبغي أن يتبع المؤمن الخطوات الست السالفة بكل أمانة ومحبة وضمير صالح، ومتى لم تفلح هذه الخطوات نكون قد وصلنا إلى نهاية حدود الخضوع للسلطة، وعندئذ يتحتم على المؤمن أن يطيع الله أكثر من الناس (أع29:5)
وهذا ما أكده القديس أنطونيوس الكبير بقوله [إن أُمرت بشيء يوافق مشيئة الله فاحفظه (أي نفذه)، وإن أُمرت بما يخالف الوصايا فقل إن الطاعة لله أولى من الطاعة للناس] (بستان الرهبان ص179)
والأمثلة على ذلك عديدة منها:
1- الثلاثة فتـية القديسون: فقد رفضوا الخضوع لأوامر الملك بالسجود لتمثال الذهب الذي نصبه. (دا1:3ـ30)
2- دانيال: رفض الأمر الملكي رغم المحبة الشديدة التي تربطه بالملك وصلى إلى إلهه وكواه مفتوحة فطرح في جب الأسود. (دا1:6ـ24)
3- نابوت اليزرعيلى: رفض طلب الملك بالتخلي عن ميراث آبائه فرجم.
(1مل1:21ـ16)
4- يوسف الطاهر: رفض طلب سيدته امرأة فوطيفار فطرح في السجن. (تك7:29ـ20)
5- التلاميذ القديسون: رفضوا أمر رئيس الكهنـة بعدم الكرازة بالسيد المسيح فسجنوا وجلدوا (أع17:5ـ40).
ولكن على المؤمن في هذه الحالة أن يكمل الخطوات الست السالفة باتخاذ هذه الخطوة السابعة ولكن في التزام كامل بروح المسيح من جهة رفض أوامر السلطة، مراعيا نقاوة الدافع وقداسة الهدف وروحانية الأسلوب، قابلاً حمل الصليب.
أولاً: نقاوة الدافع:
1- لا يكون الرفض بدافع العناد والتشبث بالرأي، بل من منطلق الأمانة للرب.
2- ولا يكون بدافع حب الذات والتعالي على الآخرين.
ثانياً: قداسة الهدف:
1- لا يكون الهدف هو السعي إلى الشهرة وكسب مواقف بطولية.
2- أو الرغبة في التحرر من السلطة والحياة في حرية وهمية.
ثالثاً: روحانية الأسلوب:
1- ينبغي أن يكون سلوك المؤمن في هذا الموقف خالياً من الغطرسة واحتقار الآخرين.
2- وغير مصحوب بالبغضة والمرارة. فدانيال الذي القي في جب الأسود لم يفقد محبته للملك قط كما يتضح من أسلوب رده عليه "يا أيها الملك عش إلى الأبد" (دا21:6).
رابعاً: حمل الصليب:
ينبغي أن يكون واضحاً منذ البداية حساب النفقة لقرار مثل هذا، وهو حمل الصليب واحتمال الألم بروح راضية، بغير تأفف أو شعور بعقدة الشهيد، والإحساس بالظلم، واتهام الآخرين بالفساد وعدم العدالة والقسوة. فالرب يسوع المسيح قال: "إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني" (لو23:9).
فحمل الصليب والحياة تحت الألم بنفس منسحقة وقلب منكسر هو نوع من أنواع الخضوع كما يقول الكتاب عن رب المجد يسوع "الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلا لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس وإذ وجد في الهيئة كانسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب" (فى6:2ـ8).
في الواقع إن صدور أمر السلطة المضاد لوصية الله غالباً ما يكون خيـاراً بين مطلبين:
المطلب الأول: هو تنفيذ هذا الأمر الذي يتعارض مع الوصية.
والمطلب الثاني: هو العذاب (بالسجن، أو الإلقاء في النار، أو الموت) أو بتعبير الكتاب (حمل الصليب) والمؤمن أمام المطلبين هو حر في الاختيار أن يرفض الأول ويقبل الثاني بكل خضوع. إذن فالمؤمن خاضع للسلطة على كل حال، ورفضه لأحد المطلبين ليس تمرداً عل السلطة بل استخدام لحق الاختيار الذي أتاحته له السلطة نفسها.
ورب معترض يقول إن المؤمن ليس أمامه اختيار، لأن العذاب في السجن أو في النار أو الحكم بالموت ما هو إلا نتيجة حتمية لرفض أمر السلطة. لكن الواقع أن المؤمن يكون أمامه أكثر من اختيار كما يتضح مما يلي:
الاختيار الأول: رفض أمر السلطة الذي يتعارض مع الوصية.
الاختيار الثاني: قبول حمل الصليب أو العذاب.
الاختيار الثالث: تملق السلطة أي الخنوع.
الاختيار الرابع: التمرد على السلطة وإعلان الثورة والجهاد المسلح (كما فعل بطرس في البستان بقطع أذن عبد رئيس الكهنة بالسيف) وتحريض الجماهير بالثورة ضد السلطة، وتدريب مناضلين، وتكوين ميليشيات وأجهزة سرية وتدبير مؤامرات وإثارة الفتن والتآمر مع أعداء السلطة ...الخ. ولكن عندما أمر الرب بطرس بأن يرد السيف إلى غمده أنهى على الاختيار الرابع من حياة كل مؤمن، وأبطل الالتجاء إلى القوة البشرية، وأغلق طريق التمرد إلى الأبد. وعندما سأل تلميذيه يعقوب ويوحنا ابني زبدى قائلا "أتستطيعان أن تشربا الكأس التي أشربها أنا وأن تصطبغا بالصبغة التي اصطبغ بها أنا" (مر38:10) حدد أمامهما مبدأ اختيار الصليب لا كنتيجة حتمية لرفض أوامر السلطات المنافية للوصية بل كاختيار إما يستطيعانه أو يرفضانه.